أَن تَكُونَ صَحَفِيًّا فِلَسْطِينِيًّا يَعْنِي أَن تَتَحَمَّلَ عَلَى عَاتِقِكَ مَسْؤُولِيَّةَ أَن تَكُونَ عَيْنًا تَرْصُدُ الأَلَمَ وَصَوْتًا يَنْقُلُ الحَقِيقَةَ فِي زَمَنٍ يُحَاوِلُ طَمْسَهَا. فِي أَرْضٍ تُكَافِحُ مِن أَجْلِ الحُرِّيَّةِ، يُصْبِحُ الصَّحَفِيُّ شَاهِدًا عَلَى مُعَانَاةٍ يَوْمِيَّةٍ وَحَارِسًا لِرُوحِ شَعْبٍ يَأْبَى الِانْكِسَارَ. لَيْسَتِ الصَّحَافَةُ هُنَا مُجَرَّدَ مِهْنَةٍ، بَل رِسَالَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، تُدَوِّنُ بِكَامِيرَا وَقَلَمٍ وَجَعَ شَعْبٍ يُصَارِعُ مِن أَجْلِ البَقَاءِ، وَتُخَلِّدُ صُمُودَهُم أَمَامَ آلَةِ القَمْعِ وَالدِّمَارِ.
كُلُّ صَبَاحٍ فِي فِلَسْطِين قَدْ يَكُونُ بَدَايَةً لِمُوَاجَهَةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ المَوْتِ؛ فَفِي لَحْظَةٍ، قَدْ تَتَحَوَّلُ السَّاحَةُ الَّتِي تُغَطِّيهَا إِلَى مَيْدَانِ حَرْبٍ. الصَّحَفِيُّ الفِلَسْطِينِيُّ يُوَاجِهُ المَخَاطِرَ تَمَامًا كَمَا يُوَاجِهُهَا الجُنْدِيُّ، لَكِنَّ سِلَاحَهُ هُوَ الكَامِيرَا وَالقَلَمُ، أَدَوَاتٌ تَحْفِرُ الحَقِيقَةَ فِي قَلْبِ العَالَمِ. خَلْفَ كُلِّ صُورَةٍ تُوَثِّقُهَا الكَامِيرَا، قِصَّةٌ تَخْتَلِطُ فِيهَا الدِّمَاءُ بِالتُّرَابِ، وَخَلْفَ كُلِّ كَلِمَةٍ يُدَوِّنُهَا القَلَمُ، تَارِيخٌ مِن الأَلَمِ وَالكَرَامَةِ. وَبَيْنَ رُكَامِ المَنَازِلِ المُدَمَّرَةِ، الصَّحَافَةُ هِيَ مِرْآةٌ تَعْكِسُ مَا تَبَقَّى مِن ذِكْرَيَاتٍ وَحَيَاةٍ لأُمَّةٍ تَتَحَدَّى المَوْتَ.
أَن تَكُونَ صَحَفِيًّا فِي فِلَسْطِين يَعْنِي أَن تَكُونَ جُنْدِيًّا فِي مَعْرَكَةِ الحَقِيقَةِ؛ كُلُّ تَقْرِيرٍ تُعِدُّهُ، وَكُلُّ صُورَةٍ تَلْتَقِطُهَا، هُوَ سِلَاحٌ فِي وَجْهِ النِّسْيَانِ. لَا يَكْفِي أَن تُسَجِّلَ الحَدَثَ، بَل عَلَيْكَ أَن تَحْمِلَ رُوحًا لَا تَسْتَسْلِمُ، شَعْبًا يُقَاتِلُ لِيَتَشَبَّثَ بِحُقُوقِهِ وَأَحْلَامِهِ، رَغْمَ أَنَّ المَوْتَ يَتَرَصَّدُ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ. فِي كُلِّ صُورَةٍ، فِي كُلِّ كَلِمَةٍ، أَنْتَ تُرْسِلُ رِسَالَةً إِلَى العَالَمِ: “الفِلَسْطِينِيُّ هُنَا، يُقَاوِمُ، وَيَحْلُمُ، وَيَتَمَسَّكُ بِوَطَنٍ حُرٍّ”.
العَمَلُ الصَّحَفِيُّ فِي فِلَسْطِين لَيْسَ مُجَرَّدَ نَقْلٍ لِلْخَبَرِ؛ هُوَ تَوَازُنٌ بَيْنَ المَأْسَاةِ وَالإِنْسَانِيَّةِ، بَيْنَ الأَلَمِ وَالأَمَلِ. الكَلِمَاتُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حُرُوفٍ تُكْتَبُ، بَل هِيَ صَرْخَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الكَلَامَ. وَمَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ تَتَقَدَّمُ بِهَا نَحْوَ الحَدَثِ، تَدْرِكُ أَنَّ حَيَاتَكَ مُعَرَّضَةٌ لِلْخَطَرِ، وَأَنَّ صَوْتَ الرَّصَاصِ أَو القَصْفِ قَدْ يَكُونُ آخِرَ مَا تَسْمَعُهُ. لَكِنَّ خَوْفَكَ يَتَرَاجَعُ أَمَامَ التِزَامِكَ بِالحَقِيقَةِ؛ تَدْرِكُ أَنَّ دَوْرَكَ أَعْمَقُ مِن مُجَرَّدِ نَقْلِ الأَخْبَارِ، أَنْتَ جُزْءٌ مِن نِضَالِ شَعْبِكَ، وَجُزْءٌ مِن قِصَّةٍ أَكْبَرَ تُكْتَبُ تَحْتَ السَّمَاءِ المُفْتُوحَةِ.
كَثِيرٌ مِن الصَّحَفِيِّينَ الفِلَسْطِينِيِّينَ دَفَعُوا حَيَاتَهُمْ ثَمَنًا لِلْحَقِيقَةِ. شِيرِين أَبُو عَاقِلَةَ، الَّتِي كَانَت تَرْتَدِي سُتْرَةَ الصَّحَافَةِ وَخُوذَةَ الحِمَايَةِ، لَمْ تَحْمِهَا الشِّعَارَاتُ الدَّوْلِيَّةُ وَلَا القَوَانِينُ؛ رَصَاصَةُ المُحْتَلِّ اخْتَرَقَتِ الحَقِيقَةَ وَقَتَلَتْهَا. وَائِل دَحْدُوحُ، الَّذِي حَمَلَ الكَامِيرَا لِيُرِيَ العَالَمَ مُعَانَاةَ شَعْبِهِ، لَمْ يَكُنْ يَدْرِي أَنَّ ثَمَنَ هَذَا النِّضَالِ سَيَكُونُ عَائِلَتَهُ بِأَكْمَلِهَا.
رَغْمَ الأَلَمِ وَالخَسَائِرِ، لَمْ يَنْكَسِرِ الصَّحَفِيُّ الفِلَسْطِينِيُّ. بَل زَادَهُم القَمْعُ إِصْرَارًا عَلَى كَشْفِ الحَقِيقَةِ. إِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِلَا كَلَلٍ، يُوَثِّقُونَ الجَرَائِمَ وَيَبْعَثُونَ بِرَسَائِلِ المُقَاوَمَةِ إِلَى العَالَمِ.
هُمْ العَمُودُ الفَقَرِيُّ لِمُجْتَمَعِهِم، وَصَوْتُهُم هُوَ الحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إِسْكَاتُهَا. بِدُونِهِم، سَيَغْرَقُ العَالَمُ فِي ظَلَامِ الجَهْلِ، وَتَخْتَفِي مَعَانَاةُ شَعْبٍ يَصْرُخُ لِلْحُرِّيَّةِ. وَاجِبُنَا جَمِيعًا أَنْ نَقِفَ مَعَ الصَّحَفِيِّ الفِلَسْطِينِيِّ فِي نِضَالِهِ النَّبِيلِ، وَأَنْ نُدْرِكَ أَنَّهُ لَا يُدَافِعُ فَقَطْ عَنْ أَرْضِهِ، بَل يُدَافِعُ عَنْ مَبَادِئِ الحُرِّيَّةِ وَالعَدَالَةِ الَّتِي نَسْعَى جَمِيعًا لِتَحْقِيقِهَا.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=14288