10 December, 2024

هذا تأويل رؤياي – بقلم إيمان زهدي محمد أبو نعمة

انغمس في هدأة اللّيل و أخذ يحدّق في سَمَاءِ السَّحَرِ عبر النافذة المُشرعة أبوابها، يقَابل النُّجُوْم بابْتِسامة طَرِيَّةٍ تشتهي السلام ، لم ينم الليلة كثيرًا بسبب عواء الطائرات و رعد القصف الذي علا معه وميض صواريخ المقاومة في حضن السماء لتكبح جماح الظلام ، ما زالت تتراءى أمام عينيه تلك النيران المتأججة من قصف قريب من منزلهم الليلة، و تلك الصور التي تناقلتها قنوات الأخبار عن أشلاء تخضبت بالدماء تاركين خلفهم أرواحًا تغرق بالدموع و الوجع ،و تحترق بالأسى و تعتصرها نوبات الألم ، هدأ القصف قبل ساعة تقريبا ، قفزت إلى ذهنه فكرة أن العدو يُعد العدة لعدوان كبير و أن هدوءه هذا يسبق العاصفة ، ففتح الخوف أبوابه و سكن روحه شبح الترقب و الانتظار ، فهذا العدوان كان يَنحت روحه  مهما ادعى الثبات .

قام من فراشه و صار يتَجَوَّل فِي فِنَاءِ الدَّارِ ناظراً لشجرة الزيتون و الياسمينة المتسلقة على الجدار، يَسْتَنْشِقُ نسمات السَحر الباردة في ليالي مايو الربيعية ، بنَقَاءٍ مُفْعَمٍ بِرَذَاذٍ طَرِيٍّ، يصيب الأَجْسَادَ بِقَشْعَرِيْرَةٍ لَذِيْذَةٍ ، و يُحرّك الأغصان الهامدة، فتهتزّ رُوحُه وترتجف على إيقاع حفيفها في وسط هذا السكون المكنُون في آيةٍ عظيمةٍ .

و رغم أجواء الفجر المفعمة بالجمال اقتحمت خيالاته أفكارًا سوداويةً باتت تتجول بِحُريةٍ حتى سيطرت على مشاعره ، فانْفَتَحَتْ أَحَاسِيْسُ أبو أحمد وَتَنَبُّؤاتُهُ عَلَى مِصْرَاعَيْهَا، وَرَاحَ يَقْرَؤها قِرَاءَةً مِنْ نَوْعٍ جَدِيْدٍ ، يتساءل عن تفسير ذلك الحُلم الذي يحلمه للمرة الثالثة على التوالي ، وهو أن ضرسيه قد سقطا ،تنهدَ و هز رأسه و كأنه ينفض ذلك الحلم عن مُخيلته ، قائلًا في سره “لربما كانت أضغاث أحلام “، ثم عاد لأفكاره و أحاسيسه مرة أخرى ، متسائلاً عن سر صِيَاحُ إِوَزَّاتِ الدَّار كَالنَّحَيْبِ ، و عن شجرة العنب التي لم تؤتِ أكلها هذا العام ، و عن وقوع كأسين من يديه بالأمس و انكسارهما رغم أنه كان يمسكهما جيدًا ، ثم حدّث نفسه عن سبب قلقه المتضاعف هذه الليلة رغم اعتياده على العدوان المتواصل على غزة لليوم الثالث على التوالي ، فقد كان يشعر بصخرة تتربع على صدره فتضيق منها أنفاسه و تسلب النوم من عينيه !

نظر إلى السماء فوجد بضع طائرات بزغت على صفحات الظلام تشوه شكلها ،شيء ما كان يطرق زوايا روحه كلما نظر إليها ، حاول طرد تلك الأفكار عن ذاكرته فتوضأ و صلى ما قدّر الله له أن يصلي قبل أن يتبين الخَيْط الأَبْيَضِ مِنَ الأسود ، و عندما علا صوت المؤذن مناديا للصلاة دَخَلَ مُبْتَسِمًا إلى غرفة ابنيه ليُوْقِظُهما لصلاة الفجر ، قائلاً :

– انْهَضْ يَا أحمد .. وَأَنْتَ يَا هَمام .. الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ… اخرجا من تحت الأغطية فالمولى يناديكما .

استيقظ الشابان ثم خرجا معه إلى المسجد و أخذا يتأملان في طريقهما الأبواب التي بدأت تُفتح ، و الأشجار التي أثقَلها ندى الفجر فانحنت تُقبل المارين بها ، والناس الذين يخرجون مستأنسين بِصَوْتِ أَذَانِ مؤذن المَسْجِدِ الهادِرِ العذْبِ غير عابئين بذلك القصف الذي كان على أشده اللية .

 أَكْمَل أبو أحمد مشْوَارَهُ نَحْوَ المَسْجِدِ لِإِمَامَةِ المُصَلِّيْنَ وَهُوَ يُتَمْتِمُ بالذكر و التسبيح، و عندما وصل المسجد الْتَأَمَ المُصَلّوْنَ خلفه في جَمَاعَةً، واخْتَلَطَتْ الأَنْفَاسُ والمَشَاعِرُ وَالأَلْسُنُ ،و تلاصقت الأكتاف و اصطفت الأقدام ؛ فأخذ يرَتِّل كَلِمَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَمَضَتِ الأًجْسادُ، وَالأَرْوَاحُ، تَستنشِق عَبَقَ الرُّكُوْعِ وَالسُّجُوْدِ؛ و أخذ الكَثِيْرُ مِنْهُمْ يُهْرُقُ دَمْعَهُ فِي مَوْضِعِ اقْتِرَابِهِ مِنْ رَبِّهِ ، داعيين الله أن يدفع عنهم هذا العدوان .

و فجأة علا أزيز الطائرات فواصل أبو أحمد صلاته رغم انقباض قلبه في تلك اللحظة ، و بينما هم ساجدون لربهم أطلقت الطائرة صاروخًا بعثر المصلين ، فهَرَعَ بعضهم أَوْزَاعًا يهربون من القصف الذي حمى وطيسه بعدها ، و صاروا يحثون الخُطَى نحو بيوتهم مذعورين، و قام بعضهم الآخر يُنقذ مَن فيه بقايا حياة و يساعد المسعفين بنقل ضحايا العدوان إلى سيارات الإسعاف ،ثم  أخذوا يعدُّون الشهداء الذين خضبوا المسجد بدمائهم ، و غَلَبَ الوَجْدُ أَفْئِدَةَ الكثيرين ؛ وَارْتَفَعَ صوت التَّكْبِيرُ وَالنحيب، وَعَجَّ المَسجِدُ بِالبَشَرِ ، وَضَجَّ بِنَشِيِج الآهَاتِ المُتَلَاطِمَةِ ،و طُبِعَ لَونُ الدماء عَلَى أَكُفِّ الحَامِلِيْنَ، وَجِبَاهِ الفَاقِدِيْنَ .

و صار الجميع يَتَهَامَسُوْنَ بِأَلَمٍ: هذا الرجل المكلوم فقد ابنيه أحمد و هَمام .

وزَخُرَ التَّهَامُسُ قُبيل هَذَا التَساؤُلِ المَشْحُوْنِ بالفَقْدِ، وَالوَجْدِ لأحد المصليين: ” هل للإمام أبناء آخرون غير الشهيدين، أم أنه بقي وحيدًا في بيته بعد رحيلهما ؟؟” 

فعلت الأصوات بالدعاء بأن يرزقه الله الصبر و السلوان فقد أصبح الآن وحيدًا.

أخذ الشيخ يتأمل جثتي ولديه المسجتين أمامه تلتصق في أذنه  كَلِمَاتُ الدُّعَاءِ له بالثبات ، ثم عَلَّق عينيه بِوَجْهِ السَّمَاءِ يتمنى من الله القبول فهم في ذمته الآن ، و بعدها نهض ليلتحق بحفل زَفَافِ الشَّهداء و كُتَلٌ مِنَ البَشَرِ خلفه تتَزَاحَمَ كَالفَرَاشِ، يَحملون نعش الشهداء إلى المقبرة ، و قد تجمهر حوله أصحابه يتلقفونه بآيات الصبر و الثبات ليهدأ .

و عندما انفضّ بيت العزاء ليلاً و انكفأت الشّمس بحزن حتى غابت خلف ركام البيوت ، تكوّر الشيخ في فراشه بجناحيه المنكسرين ، يعلم أنه لن يستطيع النجاة من مِقصلة الفقد و متاهات الوجع ،فستباغته الذكريات عند كل لحظة صمت ،و سيظل قابعًا بين مُدى الألم و جدران الحزن حتى يأخذ الله أمانته، ثم بكى ابنيه بضراوةٍ عندما تبادر إلى ذهنه قوله تعالى ” هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقًا”،  حينها حاول منهكًا أن يُلملم شعثَ روحه مستلهمًا الصبر بنفسٍ عميق ، ليستريحَ على شطآنِ الرِّضا.

Font Resize