18 April, 2024

أن تبلغ الخمسين حيًّا… بعد موتك

إبراهيم نصر الله 

لم ألتق غسان كنفاني، إلّا أن شيئًا ما غامضًا ظلَّ يشدني للقائه دائمًا، وكأن ثمة فرصة طبيعية سانحة لتحديد موعد معه في أيّ وقت.
أحد أفراد العائلة، خالي محمود، الذي نشر أولى مجموعاته الشعرية في مطلع الستينيات، تبادل الرسائل مع غسّان، ووصل بهما الأمر أن حدّدا موعدًا للقاء في بيروت، فاستقل خالي الطائرة من ستوكهولم. وما إن وصل بيروت، حتى وضع حقائبه في الفندق في ذلك المساء، وانطلق إلى لقاء غسان. سأل عنه، وهو يخبرهم أنه قادم من السّويد خصيصًا للقائه، وكم فوجئ أن مَن هناك راحوا يبكون، وقبل أن يسأل، أخبروه أنه تمَّ اغتيال غسان صباح ذلك اليوم.
عندما رأيت خالي محمود بعد ستة وثلاثين عامًا في بيته، في السويد، وحدّثني عن ذلك، بكى كما لو أنه يسمع الخبر للمرّة الأولى.
كثيرًا كتبتُ عن غسان، منذ أن وعيته، بل منذ أن وعيتُ نفسي به حين كنت شابًا أخطأ الطريق، (قبل أن يقرأ «رجال في الشمس»)، فمضى إلى الصحراء، واثقًا أنه سيحرر الفراغ من وحدته، والبشر من غموض الكلمات، والكلمات من التباس معناها.
حين كنت مدرّسًا في تلك الصحراء القاسية، وصلتني ذات يوم أعمال غسان كنفاني عبر واحد من زملاء المنفى الذين نجوا بسبب قراءته لغسان أيضًا، قرأتُ وقرأتُ، إلى أن وصلتُ إلى رواية «رجال في الشمس». انتابني حسّ غريب، أنني لم أمُتْ في ذلك الخزان الذي مات فيه أبطال الرّواية، لسبب ما، لا أعرفه. ربما لأنني رفضتُ أن أدخل الخزان، يوم دخلوه، أو لأنني خفتُ عتمتَه، حرارته التي بلا نور، احتراقي بظلامه.
قراءتي للرواية جعلتنْي أحسّ أنني، «يوم الخزان»، اجتزتُ الحدود، سرتُ بعيدًا، بينما صعد أبو الخيزران درجات مبنى الأمن، وغاب… غاب طويلًا في داخله.
كان رجال الحدود يُمازحون أبا الخيزران، قائد الصهريج، ويسخَرون منه، من رجولته. وفكّرتُ لماذا لم يغامر أبو الخيزران؟ لماذا لم يتحرّك في الليل؟ هل لخوفه من احتمالية وجود دوريات أمن؟ كان يمكن أن يصل في الفجر، تحت شمس طيبة، وبذلك ينجو أولئك القابعون في جوف العتمة؛ رفاقي في الرّحلة!
سينجون بالتأكيد، ولكن الرّواية ستحرق قلبَ غسان وعقله لو لم يكتبها، ولن نحترق بها بعد ذلك، وبذلك ستفوتنا فرصة الثورة في حضرة أجسادنا وهي تترمّد، وأرواحنا وهي تتسلل مبتعدة.
في صحرائي تلك، ليس أبو الخيزران من صرخ بعد أن وجدهم ميّتين: «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»، أنا الذي صرختُ. لماذا يُمنَحُ هذا المتفاخِر شرفَ إطلاق صرخة حارقة كتلك؟
في تلك الغرفة الصحراويّة، غرفتي، كنت أحترق بحمّى الملاريا، وكان حرس الحدود وآباء الخيزران، وكلّ مَن هم على شاكلتهم، يحيطون بها. كنت الوحيد الذي نجا ولم ينجُ، كانت «براري الحُمّى» كأنها تتمّة «رجال في الشمس»، كانوا يتضاحكون مطمئنّين، كما لو أنهم والحرّاس يعرفون أنني في الدّاخل، ويواصلون اللعبة، ويتراهنون: كم ساعة يمكن أن يصمد في جوف غرفته؟ في جوف جمجمته الملتهبة؟ في جسده الذي يقاوم الموت بارتعاشه المجنون؟ كم ساعة سيحتمل العتمة؟ هل سيجرؤ على طرْق الباب من الداخل، أو فتح الشّباك؟ هل سيصرخ أولًا، أم يطرُق أولًا؟ هل سيموت؟
في ذلك الليل الصحراوي المقفل الذي تلعب فيه نجوم السّماء كلَّ الأدوار، إلّا دور الدّليل الطيب، وصل غسّان، وقرأته، فنجوتُ.
حين كنا نتحدث قبل أسبوع؛ مجموعة الأصدقاء، عن النشاطات التي يمكن أن تقام في الذكرى الخمسين لاستشهاده، اكتشفت أننا كلنا، تقريبًا، كنا ندين لغسان، لأنه في لحظة ما، لحظة فاصلة بين الوجود والعدم، دفعَنا لأن نطرق جدران الخزان لننجو.. ونجوْنا.
لا أعرف كم عدد أولئك الذين نجوا بفضله، في لحظات التحقيق الصعبة، حين طوّحوا بضعفهم بعيدًا وصمدوا، وفي العزل الانفرادي حينما بددوا وحدتهم بصوته، وقرروا أن يحتملوا قسوة الظلام وهول المسافة بينهم وبين وجوه صغارهم ووجوه أمهاتهم وحبيباتهم كي لا ينكسروا، وأولئك الذين في لحظة ما، أمام خطر داهم،، قرروا أن يتراجعوا، أن ينسحبوا، فلم يفعلوا ذلك، وأولئك الذين كان عليهم أن يصمتوا خوفًا من طاغية أو متسلط من أي نوع كان، وأولئك الذين يئسوا، وعندما تذكّروه عاد لهم اليقين بأن الحياة لم تزل ممكنة، والجمال ممكنًا، والغد ممكنًا وصالحًا للحياة وتنظيف الشوارع مما تبقى من بقايا آثار الغزاة والمحتلين وملتهمي أرواح الشعوب بالجملة والمفرّق.
ما الذي يعنيه أن تبلغ الخمسين من موتك حيًّا؟
سؤال يتردّد مع تردّد دويّ ذلك الانفجار الغادر الذي حدث قبل خمسين عامًا، في بيروت، في مثل يوم غد؛ الثامن من تموز، ووزّع جسد غسان كنفاني على قمم الأشجار وسطوح المنازل والأرصفة وعيون الناس…
لا يستطيع أحد أن يؤكد كم يعيش البشر بعد موتهم.
فهناك من يموتون قبل موتهم، وهناك من يموتون قبل دفنهم، وهناك من يعيش أسبوعًا أو اثنين، وهناك من يموت بعد إغلاق بيوت العزاء الذي تُختتَم بالتثاؤب والتحديق إلى الساعة؛ يستحثونها أن تسرع، كي يعودوا إلى بيوتهم.
تبدو كلمة الموت كلمة لم تخترع من أجل من هم مثل غسان.
كم عمرك بعد الموت؟ يعني كم كان عمرك في الحياة. عمرك الحقيقي الذي لا يضمنه لك منصبك أو مداحوك أو مدللو اسمك أو قاتلو حروف كلماتك.
غسان تجاوز ذلك كله، تجاوزه بنداء حريته وبكتابة نضرة، بدل أن تقلِّد الحياة، الحياة تقوم بتقليدها.
كل أولئك الذي قلدوا الحياة، ضجرت الحياة منهم، وتخلّصت.
حتى الحياة في حاجة إلى من يتحدّاها، ويذكِّرها بنفسها، يتفوّق عليها، يهزم خيالها، يجعلها تعيد النظر إلى معناها وجدواها، وحتى اسمها، وهي ترى أولئك الجميلين يواصلون الحياة حتى بعد موتهم، أحياء لا يقلّون نضارة عمّا كانوا عليه في حياتهم، لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا عالة على جوهرها؛ إلى ذلك الحد الذي يكتفون معه بإنجاب أمهاتهم لهم.
إنهم ينجبون أنفسهم في كل لحظة، لذا لا يتوقفون عن أن يولدوا كل لحظة بعد موتهم، حتى وإن كان موتهم قاسيًا كالطريقة التي استُشهد بها غسان.
وبعــد:
أشلاء غسان الموزعة فوق رؤوس الأشجار وسطوح المنازل وعيون البشر وأكتافهم وأرصفة بيوتهم ونوافذها، لم تزل تتجمع منذ صباح ذلك الثامن من تموز وتنطلق حية صوب كل ما هو جميل وحرّ.
هل أدرك القتلة استحالة قتل الجميلين؟ بالتأكيد لم يدركوا، ولن يدركوا، لأنهم لا يقرؤون مطالع النهايات؛ نهاياتهم، وحين تحين لحظة زوالهم لن يدركوها، لأنهم لن يكونوا هنا.

المصدر: القدس العربي 

رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=4791

Font Resize