31 October, 2025

“كاميرا في حكاية” قصة للكاتب نضال الخليل

هناك وقعت الكاميرا عقدها مع يدي لتحويل المشهد إلى صورة، وأكتب منها ألف حكاية لتتحول الصور والكلمات إلى معول يكسر جدران الحصار ويصرخ بالمشهد كما هو حقيقي كما أهله

كاميرا في حكاية 

نضال الخليل

خمسُ دقائق لن تطيل من عمر الانتظار … سأصل الى قبر صديق وأعود لأمضيَ معكم.

لم ينتبه الشاب بالزِي العسكري لأهمية الوقت تركه يدخل المقبرة.

ضاق الطريق الفاصل بين كتل القبور لأنهم أيام الحصار حفروا حتى الأرصفة قبوراً.. شعر بأنّ الطريق طويل ربما لأنه لا يريد التأكد من موت صديقه مع أنه هو الذي أراح رأسه على وسادة الطين تاركا عدة دفاتر كما هي وصيته عندما يدفن.

علهم يشاركونني عتمة القبر

جلس إلى جوار القبر:

يحيى الحصار انتهى… انهضْ لنمضي لمقهى الهافانا كما وعدتني، ونكمل الحديث عن الشعر، والوطن، والجوع والنساء.

انتهى الحصار والكاميرا مع الكلمة خلعوا سور الحصار من جذره الخراب… انهض لا تتركني للمرة الثانية.

يرمي صورة على القبر: – سأترك صورتك بدل الشاهدة لأننا لم نتمكن من حفر اسمك على رخام الشواهد، ولكني حفرته على جدران قبرك هذه الصور ربما لعابر يراك فيصلي لك ويتحسر رحيلك.. عاد أدراجه ليركب الحافلة مع الخارجين.. الحافلة تكتسح الطريق الرئيسي للمخيم باتجاه أوله، تحسس بأشياء تنسل من روحه كلما اقتربت الحافلة من حاجر الجسر.. دخل الحاجز وفُتحت أبوابُ الخروج.. انطلقت الحافلة لضوء آخرَ لا يشبه ضوء المخيم فالضوء هناك كان يكفي فقط لالتقاط صورة.. ضوء رشوة للسيدة العدسة لتفتح وتغلق على ضوء يكفي لنقش وجهٍ لحكاية هناك.

الكاميرا بنت الضوء – كانت علاقتي الأولى بها من عيني والدتي وأنا بعمر السابعة بعدما انتهى العم أبو العبد صاحب الإستديو من وضع الإطار الخشبي لصورتي..

أمي علقتها على جدار في غرفة الضيوف وحولتها لحكايا لكل زائرة تأتي لتشرب فنجان قهوة.. قهوة أمي حافلة بالحكايات.

الضوء خارج المخيم لا يكفي لحدقة الكاميرا

أم زياد المرأة السبعينية الباقية معنا في الحصار وبعدما استطاعت تهريب عائلتها لبلاد الغرب كما قالت لي:

افضح أفعال ولاد الكلبة بعدسة الكاميرا

الضوء هناك كان أكثر… عندما أمسكتني كاميرتي وأنا أراقب الداخلين لإسقاط المخيم في دوامة رصاصهم

ارتطمت الطائرة بعمامة الصلاة لمسجد عبد القادر لتحرق لونها وتحول باحة المسجد إلى قبر بلا لحد

هناك وقّعت الكاميرا عقدها مع يدي لتحويل المشهد إلى صورة 

بدأت بالتقاط كل ما تحط عليه العدسة من توجع، أو خراب، أو موت، أو جوع، بدأت بتجميع الصور لا لأعلقها على جدار غرفة أمي، بل لأعلقها على جدران مواقع التواصل والإنترنت، وأكتب منها ألف حكاية لتتحول الصور والكلمات إلى معول يكسر جدران الحصار ويصرخ بالمشهد كما هو حقيقي كما أهله.

وبالاتفاق غير المعلن بيني وبين أكثر من عشرين شاباً في اللحظات التي تحول فيها المكان إلى ثُكنة حرب قررنا إمساك الحقيقة في شكل نص أو صورة أو أي شيء لنكسر لعنة الحصار.

وانتشرنا كما ضوء النهار وريح العتم

بين الكاميرا والكلمة خليط فكري وجسر صرخات غاضبة جاءت من التواصل.

أكفُّنا تعرقت وارتجفت.. وأكثر الأكفِّ المدهشة التي حاولت كثيرا التقاط صورة لها لكن الكاميرا كانت أصغر من حجمها، يد صديقي يحيى الذي كنت تراه في كل مكان

يا رجل كأنك جني.

بهذه الكلمات كان يحب كثيرا وصفه وفي تجمع طبيي بآخر المخيم كان في المجمع طبيب واحد فقط وعدد قليل من الممرضات ويحيى كان هناك ليأخذ لحظة دور الممرض والمسعف، وتارة دور حفار القبور والشيخ الذي يتلو عدة كلمات على رأس الميت.

وأذكر وقتها كتب يحيى على أحد جدران المجمع (في عام 2012 استلمت شهادة الطب)

وبهستيرية المشهد الضاحك وقع كل منا شاهد على الشهادة وأضفت وقتها طبيب وحفار قبور.

مع يحيى والصورة والكلمة تعلمنا مهناً كثيرة أغلبُها كل هدفه رتق جروح الجوع والتعب مما تبقى هنا.

وكان هناك أيضا جمانة وياسر اللذين يملكان أكثر من خمسين بطاقة شخصية، وأرقام لمن دفنوا في باحة المسجد أو مراكز الإيواء، أولئك الذين نزحوا قبل سقوط المخيم من الأماكن المجاورة يحملون معهم خوفهم

ورغبتهم في الاختباء عن الموت، ولكن الموت كان حل لعنة الخوف وتحولوا إلى جثامين منهم من استقل بالمصادفة بقبر، وأكثرهم تجمعوا في قبر واحد ربما كي لا يضيعوا في أزقة المقابر.

عبد الحميد المهندس المعماري الذي صاحبته طَوال فترات القصف قال:

أتعلم.. الله وحده الذي يفهم الشكل المعماري لقبر يجمع كل هالبشر

توقفت الحافلة بالقرب من جسر عريض محاذية لحافلة أخرى

قالت جمانة: انتهى الحصار

نظرت إلى الكاميرا

إلى لبنان يا صديقتي تجهزي لصور جديدة.

أغمضت الكاميرا عدستها ولم تجب.

Font Resize