17 November, 2025

حمامة وسط الدخان – بقلم الشيماء رجب

تكرر السؤال عدة مرات، لم أكن أريد اللعب فكان لدي المزيد من الواجبات، في الساحة الواسعة للمدرسة.. جلست أفكر بينما الأصدقاء يلعبون، يحملون أخي الصغير على أكتافهم، يحبونه كثيراً.. كانوا.

    كان جائعاً يحمل في يده شطيرة صغيرة بحجم يده، ولكنها كانت كافية لتسد جوعه، أخي أصغر من عُمر الالتحاق بالمدرسة، ولكنه كثيراً ما يأتي معي إلى هنا.

    تكرر السؤال.. ومازلت لا أريد اللعب، فلا وقت للعب، لم يعد هناك مزيد من اللعب.. وبالرغم من ذلك كانوا يلعبون.. حملت الفتيات الصغيرات أختهم الصغرى، وهم يضحكون ويهتفون “الشهيد حبيب الله”، لعبتنا المفضلة.

    تكرر السؤال “هل من أحياء؟” حاولت أن أنطق، مازلت أحاول استيعاب ما يحدث.. لا يمكنني تحريك جسدي، لم أستبعد أني لم أعد أملك هذا الجسد ربما هو في مكان آخر وحده.. كما حدث لبعض الأقارب في قصف قريب.

    لم أتمكن من الرؤية سوى ضوء خافت بعيد صغير كثقب في قلب الظلام.. اقترب الصوت أكثر.. هل هنا من يظل حياً؟! نطقت بصعوبة: ربما أنا.. ربما أكون حياً.   ولكن علمت أن صوتي لم يخرج لأبعد من شفتي، تساءلت “هل أخي هنا معي؟!”

    ليته بالخارج ليته حرٌّ خارج تلك الأنقاض، أنقاض المأوى الوحيد الذي بقي لنا، فقد كان لمدرستنا وظائف عدة، نتعلم.. نأوي إليها أثناء القصف المتكرر، نعيش داخلها كلما قُصف منزلنا، مثلها مثل الجوامع والكنائس والمشافي، وقفت في الساحة أحمل بيدي كتاباً تقطعت بعض صفحاته، كان هو الناجي الوحيد من قصف بيتي، فحينما عدت مع أخي من السوق لم أجد بيتي.. ولكني عرفت موقعه، كان الجميع يبحث ولكن لا شيء.

    تسلقت وصعِدت وأخرجته من بين الأنقاض بعد مجهود كبير، أمسكت يد أخي وبيدي الأخرى كتاباً، وذهبنا مباشرة إلى المدرسة، فالأمر معتاد.

    بينما كانوا يلعبون نظرتُ إلى كتابي ثم نظرت إلى الأعلى، وقفت وسط الساحة، التفتُّ إلى من حولي.. زملائي.. أخي.. معلمي وأسرته وهم يدخلون إلى مدخل المأوى الوحيد المتبقي، ثم نظرت إلى السماء.. ابتسمتُ عندما رأيت حمامةً بيضاء كبيرة ترتفع إلى أعلى، بدأت أشعر بالهدوء، ناديت على أخي فهو يحب رؤية الحمام، وتلك كانت رائعة الجمال، ولكن ما إن التفت حتى وجدتُ الجميع خلفي ينظرون إلى السماء، لم تكن الحمامة البيضاء التي تجعل وجوههم شاحبة، لم يكن هناك مزيد من الوقت لأنظر إلى السماء مرة أخرى.. أو أخيرة.. فقد حدث ما أراه دائماً ولكن هذه المرة لم أره، إذ كنت داخله.

    “هل من أحياء؟” تكرر السؤال، وسؤال داخلي يتكرر “هل مازلتُ حياً؟” الشهيد يذهب إلى الجنة.. يطير بجناحيه إلى أعلى في جلباب أبيض رائع، يرتفع إلى أعلى.. إلى السماء.. إلى الجنة، إذن أنا مازلت حياً.

    لم ألحظ أخي بين الواقفين حين التفت، زادت مساحة النور التي كنت أراها من بعيد، بدأت تزداد وأنا أبحلق عيني، أخي؟! سأراه الآن!

    بدأتُ أميز جسدي بين الحجارةِ التي تغطيه، بدأت أميزُ الوجوه التي يجذبني أصحابها، أخرجوني وهم يهللون “إنه حي، الله أكبر” ها هو جسدي يكاد يكون كاملًا، مددتُ يدي فأمسكتْها يد أخرى غير التي أريد، غير التي أنتظر، يد أخي.. أين أخي؟    كان يحمله الأصدقاء على أكتافهم، وبيده شطيرة صغيرة، كنت مستلقياً على ظهري فوق إحدى النقالات، وبالسماء حمامتي الرائعة، وحولها ظهر سرب من الحمامات يشبهونها، يرتفعون إلى أعلى، يشقون دخان القصف، ويرتفعون أكثر.

    أمسك معلمي بيدي وأشار إلى الجهة الأخرى، كان أخي يحمله بعض الأصدقاء، من بقي منهم، بيده شطيرته ودماء.. صاح الجميع بصوت مرتفع “الشهيد حبيب الله”.

    جذبتُ يد معلمي ووقفتُ بصعوبة، وأخذت أنادي “هل من أحياء؟”

Font Resize