حدث ذلك ذات خريف بارد نسبيا.
في السادسة والربع من أحد صباحات ذلك الخريف الأصفر، من عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين.
لم يمرّ علينا أكثر من شهرين في المدرسة بعد، حيث كنت لمَّا أزل في الصف الثامن الإعدادي.
بيتنا، آنذاك، بلا غاز للطبخ، أو غسالة، أو ثلاجة، أو مروحة، لعدم وصول الكهرباء إلى قريتنا بعد.
في ذاك البيت الترابي على أطراف قريتنا، وككل صباح رمضاني نفس البرنامج.
نستيقظ قبل أذان الفجر بساعتين تقريبا، لنساعد أمي في إشعال(بابور) الكاز، لتجهيز السّحور، وتسخين ماء الوضوء لصلاة الصبح.
لأبي مكان مخصص في الزاوية الجنوبية الغربية من تلك الغرفة الطينية، قرب النافذة الضيقة المطلة علىٰ الدرب المؤدي إلى البرية الواسعة، حيث يمر الرعاة في الغُدُّو والآصال.
زاوية أبي المفروشة بجلد أضحية جدي فيٰ العام الماضي، تتناثر حوله علبة التبغ المعدنية، والقداحة ذات الفتيل البرتقالي، ومنفضة السجائر الخشبية العتيقة، التي ورثها من جدتي المرحومة فاطمة.
معظم الأوقات كان سحورنا خبز تنور مقطع، نسكب عليه الشاي المحلّىٰ زيادة عن اللزوم، وأحيانا، ماءً ساخناً وسكراً، إن لم تتوفر الشاي.
قرب أبي، صندوق خشبي بنيّ كبير، يخبئ في جوفه الراديو المدلل، وسيلتنا الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي.
يومها، التفت إلينا أبي قائلا :
– إنها الحرب يا أولاد، لاداعٍ لتذهبوا إلى المدرسة اليوم.
غمرتني فرحة بحجم الدنيا، لأنني سأقضي عطلة غير يوم الجمعة، أصطاد فيها العصافير من كروم القرية الجنوبية، لتكون وجبة إفطار شهية، مغرية في رمضان .
إنها السادسة والربع صباحا، موعد نشرة الأخبار الأولى من إذاعة دمشق.
وبإشارة من أبي، عمَّ المكان صمت تام.
يرفع أبي صوت(الراديو).
( أدلى ناطق عسكري بما يلي: مازالت قوات جيشنا الباسل تدك حصون العدو، وتدمر له خمس سيارات وعربتي نقل ودبابتين، وتسقط له سبع طائرات(ميراج)، والعدو يهرب من مدينة القنيطرة).
يبتسم أبي، ولأول مرة في حياتي، أرى عينيه تدمعان!!.
لم أعِ كل ما سمعت، ولكنني بكيت، لأن ذلك الرجل الأكبر في الوجود في عيني يبكي.
معقول أن يبكي هذا الجبل الضخم؟!.
أبي يبكي، يا إلهي!!.
لابد أن أمراً جللاً قد حدث!!.
ربَّتَ على كتفي، مبتسما، ثم قال:
– سنهزم اليهود، ونحرر فلسطين.
وتابع:
– قم الآن، افتح خُمَّ الدجاج وأطعمهم.
جاء صوت جدي من غرفته:
– لا تصدقوهم، أخبارهم كاذبة، نعرفهم من أيام النكبة والنكسة. إنهم كذابون.
خرجت، وأنا أحلم، كيف سأرافق أبي إلى الجامع الأموي بدمشق، ثم إلى فلسطين، ونصلي في بيت المقدس، وجامع قبة الصخرة، كما قالت لي أمي، بعد أن نطرد اليهود المغتصبين منها.
كنت أتخيّل القدس بجدران ترابية، وحجارة ضخمة قديمة، وسطح يتسرب منه الماء شتاء، ومئذنة خشبية، تشبه الجامع الأموي بحلب، والذي زرته العام الماضي برفقة أبي.
صرت أحلم، وأنا أطعم الدجاجات كيف سأصبح رئيسا للدولة، وأزور فلسطين المحررة، وألقي خطاباً تاريخياً للأمة العربية من على منبر بيت المقدس ليتّحدوا تحت راية واحدة!!.
كم كان الحلم سهلاً آنذاك!!.
ولكن ها أنا اليوم، وبعد أكثر من أربعين عاما، ما زلت أحلم، وأرسم صورة الأقصى بجدرانه الترابية العالية في مخيلتي ومزاريبه الحجرية.
كبرنا، هرمنا، ولم يكبر الحلم.
مات جدي، ولحقه أبي بعد عشر سنوات، ومن شدة حزنها، توفيت أمي أيضا، ولكن الحلم لم يمت.
استبدلنا(الراديو) بالتلفزيونات، ثم بشاشات البلازما، وأمّا جلد الأضحية فقد استبدلناه بطقم( قلاطق ) مزخرفة، وأصبحت بيوتنا من مرمر ملون، ولم يبق لدينا دجاج، ولا غنمات، وغابت وجوه الرعاة عن مدينتنا.
فماذا حدث بعد ذلك؟!!.
قام الطغاة من أبناء جلدتنا، بتدمير بلادنا بشتى أنواع الأسلحة بالبندقية والصواريخ البعيدة المدى، حتى الطيارات الحربية والغازات الكيماوية السامة.
فهاجرنا إلى جميع أصقاع الأرض، وتركنا كل شيء وراءنا، وهربنا ناجين بأرواحنا من حقد المجرمين، فارين بأولادنا إلى بلاد آمنة من القتل والقصف، ونسينا القدس، وما آلت إليه حالها وحالنا.
ربما قُدِّر علينا أن نتوارث، عبر الأجيال، الأحلام، والطغاة المجرمين الكذابين، كما كان يقول جدي، إنهم كاذبون، كذابون.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=14049




