بقلم نضال الخليل
في لحظات متشابكة بين الحياة والموت حيث تتداخل الألوان مع الرماد يجد الفلسطينيون في غزة أنفسهم محاصرين بين جدران الزمان والمكان بين الحياة التي ترفض الانصياع للموت وبين موت يرفض الرحيل إن السينما بوصفها أداة لعرض الواقع تتطلب في بعض الأحيان أن تكون أكثر من مجرد وسيط بين العالم والمشاهد فهي تصبح وسيلة لخلق الوجود وإثباته في وجه كل محاولات محوه “من المسافة صفر” هذا المشروع السينمائي الذي يقوده المخرج رشيد مشهراوي لا يهدف إلى توثيق مجرد لحظات الحرب القاسية بل هو محاولة فلسفية للاقتراب من جوهر الوجود الفلسطيني في غزة لا يسعى هذا العمل إلى استعراض بطولات ولا إلى تقديم صورة متماسكة للأحداث بل هو فعل سينمائي غير تقليدي يهرب من إغراء السردية الثابتة ويغوص في عالم من الصور المتناثرة التي لا تقوى على تكوين سرد واحد ولكنها قادرة على أن تكون شهادات حية ترفض النسيان.
عبر عشرين كاميرا موجهة إلى الحياة الفلسطينية تحت القصف يعيد المخرجون الفلسطينيون النظر في طريقة توثيق الواقع حيث تصبح السينما هنا أداة مقاومة تتحدى الزمن وتتحدى الموت في هذا الفضاء بين الوجود والعدم يقدم “من المسافة صفر” صورة للوجود الفلسطيني التي لا تقبل أن تُمحى، رغم محاولات الدمار المتواصلة هذا المشروع الذي يلتقط اللحظات العابرة، يعيد التفكير في معنى السينما كوسيلة للحفاظ على الذاكرة كما يعيد تعريف معنى الوجود في قلب الخراب.
في عالم السينما الفلسطينية لا يمكن أن يمر مشروع “من المسافة صفر” دون أن يترك أثراً عميقاً في الذاكرة ليس هذا العمل مجرد فيلم بل هو محاولة فلسفية جادة للبحث عن الوجود الفلسطيني في وقت تسيطر فيه الحرب على كل شيء يقوده المخرج رشيد مشهراوي الذي يعمل مع عشرين مخرجًا فلسطينيًا وكل منهم يحمل كاميرته كأداة لوصف الحياة اليومية تحت سماء غزة الملبدة بالدمار القصف والموت لكن “من المسافة صفر” لا يقف عند كونه مجرد توثيق للأحداث بل هو أكثر من ذلك بكثير هو شهادة حية على الوجود الفلسطيني تنبض بالحياة وتتنفس عبر كل شق في عدسة الكاميرا.
السينما هنا ليست كما نعرفها هذا الفيلم لا يلتزم بحبكة تقليدية تبدأ وتنتهي ولا يعترف بتتابع زمني يحدد الأحداث الزمن في غزة لا يسير وفق ترتيب منطقي فهو غير قابل للاحتواء في فكرة تبدأ ثم تنتهي بل هو مستمر كما الدم في شرايين المدينة المحاصرة الفيلم لا يسعى إلى بناء سردية واحدة متماسكة بل يتناثر كحبات الرمل التي تتساقط تحت قصف الطائرات لا نهاية له تماماً مثل الحرب نفسها التي لا يعرف أحد متى تبدأ ولا متى تنتهي لذلك كل لحظة في هذا العمل هي بداية جديدة لفصل آخر في حياة قيد الكتابة وسط الركام والدمار وفي هذا السياق يصبح الفيلم أكثر من مجرد شهادة بل هو فلسفة تتعامل مع الحكاية الفلسطينية بوصفها “مقبرة روايات” مفتوحة على كل الاحتمالات الوجود والزوال الحياة والموت.
على الصعيد التقني لا يتكئ “من المسافة صفر” على أدوات سينمائية متقدمة أو جمالية الكاميرات المحمولة التي يستخدمها المخرجون قد تبدو وكأنها أدوات بدائية لكنها في الحقيقة تلتقط الحقيقة كما هي عارية قاسية غير مزخرفة لا إضاءة صناعية ولا استوديوهات تدعي خلق أجواء مزخرفة كل شيء يُعرض كما هو الأجساد المحطمة الدمار الذي يعم الأفق اللحظات التي تسبق الموت وكل هذا من خلال كاميرات تشبه الحياة نفسها متهالكة مهشمة لكن حاملة لصدق لا تستطيع أي إضاءة صناعية أن تقدمه.
التنوع في الأساليب بين المخرجين يعكس التعدد الفلسفي والتجريبي الذي يميز هذا العمل ندى أبو حسنة على سبيل المثال لا تلتقط المشهد كما هو بل تسعى لالتقاط “رائحة الخوف” في الصورة أما كريم سطوم فهو لا يركب اللقطات بشكل تقليدي بل يقتنص بقايا الليل الغزي المتناثر ليخلق لنا ملامح من الذاكرة المكسرة هذا التنوع بين المخرجين يعكس تنوعًا في الأساليب الفنية والفلسفية حيث يضع كل مخرج بصمته الخاصة على طريقة عرض الواقع الغزي الممزق.
أما التوثيق في “من المسافة صفر” فهو لا يقتصر على التقاط لحظات عابرة أو صور عادية المخرجون مثل نضال دامو ومصطفى النبيه لا يتبعون الكاميرا كما يتبع المصور الكائن الزائل بل يتعاملون معها كأداة تثبت الوجود في لحظة الفراغ والعدم في ظل الحرب تصبح الكاميرا أكثر من مجرد آلة تصوير هي شهادة على الوجود هي الأمل في البقاء في وقت تسعى فيه الحرب لإحراق كل أمل.
رشيد مشهراوي من خلال هذا العمل لا يعيد فقط تعريف السينما الفلسطينية بل يعيد تأكيد قدرتها على أن تكون أداة مقاومة ضد النسيان “من المسافة صفر” ليس مجرد فيلم متكامل من حيث الحبكة أو الدراما بل هو رسالة وجودية تكتب من خلال فوهة كاميرا السينما هنا ليست مجرد أداة فنية بل هي وسيلة لتثبيت الوجود الفلسطيني في مواجهة كل محاولات الفناء.
ختامًا “من المسافة صفر” ليس مجرد تسجيل للواقع المأساوي في غزة بل هو شهادة حية على مقاومة الزمن والدمار هو أكثر من فيلم هو وجود مستمر في مواجهة العدم في مواجهة محاولات محو الحقيقة مع كل صورة يتحقق بقاء الفلسطيني في مواجهة الحرب وفي مواجهة النسيان هذا العمل لا يقدم فقط توثيقًا للحظات حرب بل هو وثيقة وجودية حية تعيش في ذاكرة كل فلسطيني في هذه الكاميرات التي تحملها الأيدي الفلسطينية نجد أن السينما ليست فقط أداة للإبداع الفني بل أداة للبقاء أداة لرفض محو الذاكرة وطمس الوجود.




