أصبحت بلا عمل ولا أمل وأغلقت الغرفة بابها بعد كل المحاولات مع وجهاء المخيم وشيوخها لتحصيل حقي.
وطن في غرفة
نضال الخليل
تشبه القيء الطيني أكثر من كونها مكانًا للعيش، تشعر وكأنها بقايا سعال الأرض التي برزت لتتحول إلى غرفة، جدرانها مهترئة والسقف لوحة سريالية لتأكسد الأسمنت مع الرطوبة.
الأريكة المحشوة في إحدى زوايا هذه الغرفة أطلقت عليها زينب لقب سرير وزرعت فيها زوجها بعدما استطاع المرض إتلاف شيء من قدميه ولم يعد يقوى كثيراً على الحَراك.
صارت الغرفة وطناً بعدما استنفد الصفوري كل محاولاته بالسفر.
وطن الغرفة يحمل كثيراً من الحكايات التي لا يتوقف أبو جبر الصفوري عن التحدث بها للمحيطين به من أهل البيت أو ضيف ما من الأقارب أو الجيران مع العلم أن معظمهم كان قد سمع هذه الحكايات أكثر من مرة، ولكن أسلوب أبو جبر يلبس ثوب الإغراء الخطابي والتشويق.
وكانت أم جبر كل ليلة قبل أن تطفئ الضوء كي يناموا تقول ممازحة زوجها:
والله يا أبو جبر حكايات مثلك شقية من بطن أمها للقبر.
ويكتفي أبو جبر بعد جملة زوجته الإخبارية كل ليلة بالتوجه بوجه إلى الحائط متأملاً قشور الأسمنت المتهدل من الرطوبة ويتخيل فيها أيامه، وكان يقاسمها شوقه هناك كان كل شيء مختلف ولكل شيء رائحة خاصة به.
الحي ضيق في المساحة، ولكن أوسع من بحر في الدفء هكذا كان يصف مخيمهم، تذكر سؤال أحدهم لماذا تضيف الياء على كلمة المخيم أهو مسجل على اسمك؟!
وكان يرد عليه ساخراً ياء الملكية في خطابنا عن المخيم عامة، فكل واحد فينا يراه مطوباً باسمه، إنه أقرب من الملكية إلى التملك.. تملكنا المكان لنصير جزءاً من روحه وحتى أسمنته.. صرنا المكان نفسه.
وأنا رأيت البيوت تهرول معنا عندما خرج أولئك من أظافر العتمة، هرولت معنا البيوت، ولكن القذائف والصواريخ مزقت نقطة الارتكاز لتسقط البيوت متهاوية على أصحابها وتصير مقبرة.
فقدنا الرؤية.. الدخان والغبار، سماء المكان، هدير الطائرة.. لغة جديدة
صرخ المكان للهروب خرجنا متلحفين أكفّنا فقط وكأنها صفير البوق ليوم قيامة.. كنا هائمين لا نرى سوى المسافة بحجم أقدامنا، كل خطوة بلا موت تعني النجاة من هول ذلك اليوم المعجون بالدم والموت والخوف.
همم أحد إلى لبنان لتركبوا هذه الحافلة، أهلكم هناك ينتظرونكم لتستحموا من غبار الموت وتناموا بلا خوف، انحشرتُ أنا وزوجتي وأطفالي في الحافلة، وسمعت وقتها صراخ المكان، ولكنّ الخوف جمد أطرافي وبقيت عالقاً في مقعد الحافلة.. أدركت وقتها إنني خذلت المخيم وبعت الملكية لأول الخوف بلا مقابل.
فتح مخيم نهر البارد بابه لنصطف بين جدران غرفه لاجئين جدداً ربما لأننا نحمل لقب اللاجئين سابقاً، أطلِقت علينا صفة الجدد، شعرت أننا تشكيل أو تنظيم يحمل اسم اللاجئين الجدد، وقلت وقتها لو كان هنا فايز لكتب بحثاً عن معنى هذه المصطلحات التي توزع بالمجان وكان أهل المخيم خير مضيف.
ولكن كانت الغرفة ضيقة وباردة لذا بدأنا برسم قاربٍ للرحيل صوب بلاد الغرب علنا نجد مكان يكفي لحجم حياتنا وأحلامنا، وبدأنا رحلة البحث عن مهرّب وأول البحث لم يكن غير ناصر الأقرب إلي في مخيم نهر البارد من جهة العائلة والمعارف، لذا ما كان مني إلا أن سألته اذا كان يعرف أحداً ما وما كان منه إلا أن تحول إلى طاووس فجأة.
أكيد يا أبو العبد ملك التهريب عزام تعرفت أنت عليه وجلست معه في بيت أم جمال، وهو من الأقارب.
أخي ناصر الأموال التي جمعتها أنت تعلم كيف وهي معظمها ديون من الآخرين على أمل السداد بعد وصولي إلى دولة أوربية.
توكل على الله أبو العبد.. واليوم مساء نذهب إليه للاتفاق.
وكان آخر مساء أعرف النوم في ليله بعدما كنت لقمة سائغة في فم ذلك النصاب عزام فقد عزم النصب عليَّ من لحظة ما تعرّف عليَّ في بيت أم جمال، ومضت أشهر ولم أستطع استعادة المبلغِ أو السفر.وكلَّ يوم يمر أخسر أكثر وبالأخص بعدما ركلني الموت من باب المشفى الذي أُسعِفت إليهِ بعدما دعستني سيارة عابرة، وصاحب السيارة الذي أمطر وعوده كي أتنازل عن محضر الشرطة سرق غيم كلامه وصرت أحمل قدمين شبه مشلولتين ولم أحصل على شيء لا من عزام ولا من صاحب السيارة.أصبحت بلا عمل ولا أمل وأغلقت الغرفةُ بابها بعد كل المحاولات مع وجهاء المخيم وشيوخها لتحصيل حقي… وجه الأمام أذكر تجاعيدَه.. عندما أخبرتُه بتفاصيل ما حدث لي مع عزام ابنِ مخيم نهر البارد والذي تربطه به أيضا صلة قربى وكيف سرق منا حتى وجوهنا وأحلامنا وكان رد حضرة الأمام:
اعلمْ يا غلام أن الله حماك بما فعله النصاب، أبعدك عن بلاد الغرب الكافرة الماجنة وأبقاك بين أهلك.. اتركْه لله يأخذ لك حقك منه.
كانت كلماتُ الأمامِ نصلاً حاداً نحَرَ ما تبقّى.. شعرت بلزوجة الدم على عنقي.. جمعتُ ما تبقّى من جسدي على القدمين المتعبتين وعدت لغرفتي، وهنا اكتشفت أنهم عصبة واحدة، ونظام أخلاقي جديد، خلق من وسخ المعارك الافتراضية التي أخرجتنا من بلادنا.
رأى وجهه ينحت على الجدار الذي يتأمله أصابه ذعر التفت للجهة الأخرى صارخة على أم العبد.
بدأت أم العبد تمسح جبينه المتعرق.
عليك أن تنسى كل ما حدث قبل أن يسرقك الموت.
الطحالب صارت شجراً يا أم العبد وأنا غارق.. الهواءُ لزِج وخانقٌ، أرخي حجابك على وجهي لحداً واكتبي على باب الغرفة قبر بحجم وطن.. ووطنٌ بحجم غرفة.
ترفع أم العبد رأسها إلى سقف الغرفة متأملة التهالك الأسمنتي.. تتحس حفيف ورق يلامس خدها كأنها ورقة شتلة الريحان على شرفة منزلهم القديم، تغمض عينها في رطوبة المشهد ويدها على جبين أبو العبد ليخرجا من رطوبة المكان بالحلم.
 
		



