في “مواكب الألم”، يقتحم الكاتب فايز أبو عيد عوالم وواقع الفلسطينيين، الذين لم يجدوا من جحيم الحروب مهربًا، فمن مخيم إلى مخيم تتنقل أرواحهم بين أوجاع اللجوء وظلال الاستبداد، باحثين عن بصيص أمل يضيء دروبهم المعتمة، بين الخيام المتهالكة وأحلام الأطفال المسروقة، تبقى فلسطين قضية لا تغيب عن القلوب، وعهد بالعودة يتردد صداه في كل زاوية من زوايا الشتات.
مواكب الألم
فايز أبو عيد
في زمان لا يكاد يمر يوم دون أن يكون هناك ما يعكر صفو الحياة، تفتح الحرب أبواب الجحيم على شعوبٍ كانت تسير بأملٍ نحو غدٍ مشرق، فإذا بها تسقط في جحيمٍ لا يرحم، حيث تتنازع الآلام الأرواح وتحرق الأحلام. كان الفلسطينيون أول من قطفوا ثمرة هذه الحروب، فتفتح أبواب معاناتهم منذ عام 1948، لتغدو آلامهم سجلاً مفتوحًا يعرض قسوة الاستبداد ومرارة اللجوء.
من مخيمٍ إلى مخيم، وطيف الوطن لا يغيب عن أنظارهم، هؤلاء اللاجئون الذين باتوا يعيشون حياةً يتنقلون خلالها بين أوجاع الحرب، وظلال الاستبداد، ومرارة اللجوء. كما قال أحدهم، “إذا كانت الحرب خلاصة كل الشرور، فالاستبداد هو خلاصة كل الحروب”. هذا هو حالهم، يواجهون جحيمًا من المجهول، لا تنقضُّ عنه أيديهم، لا تلوح لهم أفق رحمة، ولا يخرج لهم من بين الزمان والمكان بصيص من أمل.
وكأن الأزمات تتوالى عليهم كطوفانٍ لا يتوقف، وعلى الرغم من المحن، يبقى الشعب الفلسطيني شامخًا بأرضه، ولكن تحاصرهم مصاعب الحياة في كل اتجاه، ففي معسكرات اللجوء المنتشرة بين دمشق وبيروت، يعيش الفلسطيني السوري والفلسطيني اللبناني بين جدرانٍ من أسى، يتنفسون هواءً مثقلًا بالهموم، لا تكاد تجد بينهم شابًا إلا ويكدح لأيامٍ طويلة، ساعاتٍ من العمل الشاق الذي لا يُقدر بثمن، يعملون على أملٍ أن تكون هناك فرصة تتيح لهم العيش بكرامة، لكنهم يغرقون في بحرٍ من العنصرية، والذل، والظلم، كانوا قد هربوا من ويلات القصف والدمار، لكنهم تجدونهم يعيشون صراعًا آخر في الداخل، معركة مريرة مع كل يوم جديد، يبحثون عن لقمة عيش، ويخوضون غمار مجابهة لا تنتهي من الظلم.
وتأتي المعاناة من كل جهة، لتزيد الهموم ثقلاً على قلوبهم. فما إن يفروا من الموت جراء الحرب، حتى يجدوا أنفسهم أمام شبح آخر: انهيار المنازل المتهالكة، في مخيماتهم، تتهدم الأسطح في فصل الشتاء وتنساب مياه الأمطار من كل مكان، وكأن السماء نفسها قد تآمرت معهم على هذه المعاناة، وفي تلك الليالي العاصفة، تتغرق الخيام في فيضٍ من الأمطار، ويُجبرون على السهر محاولين إصلاح ما يتهدم من سقوفهم المتهالكة، هم يرون موتهم على الأبواب، ويشعرون أن الحياة أصبحت مجرد صراع طويل من أجل البقاء، وتلك المنازل المتداعية لا تعكس سوى النهاية القريبة.
وفي شوارع المخيم، ترى الناس يلهثون وراء الأمل البسيط، رجال ونساء ضاقت بهم الحياة، فاختاروا العمل حتى لو كان ذلك تحت وطأة الاستغلال، وبينما تعمل النساء لتأمين لقمة العيش، يصارع الأطفال تحدياتٍ أكبر؛ عمالةٍ قاسية على أجسادهم الصغيرة، وأحلامٍ ضاعت بين متطلبات الحياة. الأطفال الذين يحرمون من التعليم ويحملون على أكتافهم أثقالَ العمل الطويل، وسط همسات الأسى التي تُسمع في كل زاوية. هم يعيشون في عالمٍ مليء بالحزن، وأعينهم مليئة بالأسئلة التي لا إجابة لها.
لكن مع كل هذا الظلم والوجع، لا يزال الفلسطينيون يذرفون دموعًا معطَّرة بالأمل، ففي مشهدٍ يُجسد التضامن الأصيل، يساعد البعض بعضهم الآخر حتى وإن كانوا يفتقرون إلى كل شيء، فقد رأيت بأم عيني كيف تذوب تلك القلوب القاسية أمام بؤس الآخرين. وإذا رأيت شخصًا بحاجة، تراه يفتح قلبه أولاً قبل جيبه. وإذا وجد غيره جائعًا، تراه يقدّم له آخر لقمة موجودة في بيته، وكأن الشعب بأسره يعيش على مبدأ “لا حياة إلا بعد الحياة”.
وفي هذه الظروف الصعبة، يجد الفلسطينيون أنفسهم في صراعٍ مع الزمان، فكل يوم يمضي على الأرض يقترب من غدٍ غامض مليء بالصعاب. ومع كل فجر جديد، يخرجون للمشاركة في معركة الحياة، رافعين راية الصبر والثبات، وعلى الرغم من المحن التي يعانون منها، تبقى قضية فلسطين ملء القلوب، ويظل أمل العودة متجذرًا في عمق الأرض، ولا تتوقف أحلامهم عن الانتظار.
ففي عين كل فلسطيني، لا يغيب الأمل عن الوجود، وكأن ذلك الأمل هو ما يبقيه على قيد الحياة. تبقى الابتسامة على وجوههم رغم كل الأوجاع، وتظل تلك القلوب المتعبة تحمل في جوفها أكثر من حلم، تحملها رسالة واحدة: **”لن ننسى، ولن نتوقف عن النضال.”**
هم يحملون تاريخًا، ويمضون في دربٍ شاق لا يعرف التوقف، فمهما كانت الغربة، ومهما كانت المعاناة، سيظل الفلسطيني يزرع في كل يوم بصيصًا من الأمل، ليظل حلم العودة خاليًا من الندوب، كما هو.
 
		



