16 September, 2025

“ظلال الغربة” قصة للكاتب فايز أبو عيد

في “ظلال الغربة”، يروي الكاتب فايز أبو عيد وجع مغادرة الوطن، حيث كل خطوة في المطار كانت موتًا بطيئًا، وكل دمعة تحكي قصة ضياع روح، في عالمٍ لا يرحب بالفلسطيني، يصبح السؤال “أنت فلسطيني؟” سكينًا تغرس في القلب، والغربة ليست مجرد بعد مكاني، بل مسافة تتسع في القلب مع كل نظرة غريبة، فهل يبقى للأمل مكان في هذا الجحيم؟

ظلال الغربة

فايز أبو عيد

بدأت رحلة الغربة في ذلك اليوم الذي عبرت فيه بوابة المطار، تاركاً خلفي وطنًا كان كل شيء في حياتي، وأناسًا كانوا أكثر من مجرد رفاق، كانوا جزءًا مني، من روحي، كنت أمشي تحت سماء غائمة، والدموع التي احتجزتها في عيوني كانت تنهمر كالغيوم التي ترفض أن تفرغ حمولتها، بينما كان قلبي يذوب بين قسوة الحجارة التي سكنت فيه وحرّ الشمس التي أحرقت كل شيء في داخلي، كيف لا؟ وهذه هي الغربة، دربٌ طويل من الذل والشقاء، دربٌ تنقض فيه الرياح على كل شيء جميل، وتترك خلفها جراحًا لا تندمل.

تلك اللحظة التي خطوت فيها قدمي خارج مخيم اليرموك، كانت أشبه بموتٍ بطيء، كما لو أنني كنت أودع جزءًا من نفسي، جزءًا لا أستطيع أن أسترجعه أبدًا، ولكن الغربة كانت أكبر من أن أفهمها في البداية، فقد كانت أكثر قسوة مما توقعت.

 كانت البداية صعبة، كالسير في مسار مظلم، لا تعرف نهايته.

 بدأت رحلتي في البحث عن مأوى، عن مكان يأويني ويعطيني ملاذًا وسط هذا العالم البعيد، لكن هذا البحث كان كمن يركض وراء سراب.

بعد أيامٍ من التعب والبحث الذي لم ينتهِ، التقيت برجلٍ عرض عليّ السكن في مكان مشترك مع آخرين. لم يكن لديّ خيار آخر، فوافقت رغم توجسي، دخلت المكان وكانت الوجوه مليئة بالرفض، وبدا واضحًا أن وجودي بينهم لم يكن مرحبًا به، لكن الرجل الذي اصطحبني أصرّ على أن يقبلوني، وعندما رحل، بدأت تلك النظرات، تلك الكلمات التي شعرت كأنها سكاكين تغرز في قلبي.

 “أنت فلسطيني”، قالوا بشكل تهكمي، كانت تلك الكلمة التي أعتز بها أصبحت أقسى من أي شيء آخر، تلك الكلمة التي أصبحت شبحًا يطاردني في كل زاوية.

دخلت غرفتي ودموعي كانت تتساقط بغزارة، كما لو أن سماء الحزن قد انفتحت في قلبي، لم أستطع أن أغفو طوال الليل، ظللت مستيقظًا أتأمل مستقبلي الذي لا أعلم أين سينتهي، كان المستقبل كقلبٍ ضائع في الظلام، لا يعرف الطريق، وعندما بدأت الشمس تبزغ في صباح يومٍ جديد، خرجت مرة أخرى باحثًا عن عمل، لكنني عدت بخيبة أمل، لم أحصل على شيء.

وبعد عدة أيام من البحث المستمر، وجدته، أخيرًا، فرصة للعمل في مطعم بعيد عن مكان سكني، لكني لم أكن أملك ترف الرفض، كنت بحاجة للمال، وكانت هذه فرصتي الوحيدة.

بدأت عملي في يومي الأول وأنا أشعر بتوتر شديد، قلبي ينبض بسرعة أكبر من أي وقت مضى، وكان العرق يتصبب من جبيني، لكنني حاولت أن أخفي حزني وراء ابتسامة مزيفة، وتقدمت بطبق الطعام إلى الزبون.

“هل أنت فلسطيني؟”، سألني الزبون بكلماتٍ باردة، لاذعة كالرصاص، “ماذا يفعل صاحب المطعم لكي يترك الفلسطينيين يقدمون الطعام لنا؟” كأنما كانت كلمات الزبون ضربةً قاضية، فتحت جروحًا كانت قد بدأت تلتئم قليلاً، شعرت وكأنني أنفجر من الداخل، لكنني تمالكت نفسي، عدت إلى المطبخ وكأنّ جسدي مجرد وعاء فارغ، بينما كان قلبي ينزف دون توقف.

مر اليوم ببطء، انتهى العمل وعدت إلى السكن، حيث كانت الأصوات غير المرحبة تملأ المكان، وعندما دخلت غرفتي، جلست قرب النافذة، أتأمل تلك السماء البعيدة، وأتساءل كيف يمكن للغربة أن تكون بهذا القسوة؟ كيف يمكن أن يكون الألم بهذا الحجم؟ في تلك اللحظة، أدركت أن الغربة لم تكن فقط بعدًا مكانيًا، بل كانت أيضًا مسافةً تتسع في القلب، لا يمكن لزمان أو مكان أن يداويها.

مرت تسع سنوات منذ ذلك اليوم، تسع سنوات من الغربة والألم الذي لا ينتهي، تسع سنوات وأنا أعيش تحت شعار واحد: “لأنني فلسطيني”.

 سنوات من الذل والانتظار، سنوات من البحث عن مكان لنا في هذا العالم الذي لا يرحم، ومع مرور الوقت، أصبح الألم أكثر من مجرد ذكرى، بل صار جزءًا من نفسي، وها نحن اليوم، نحمل على أكتافنا عبء الغربة، ومشاعر الضياع التي لا تلتئم.

نعم، هذا هو حالنا اليوم، نحن الفلسطينيون، لا نعيش إلا في الظلال، في مساحات ضيقة من الأرض التي لا تعترف بوجودنا، ونعيش في ألم لا ينتهي، لكن الأمل في العودة إلى الوطن لا يموت، ويبقى في قلوبنا كجمرٍ لا يطفئه الزمن.

Font Resize