17 November, 2025

​​صائد الميركافا – بقلم إدريس النعيمي

فوق قطعة أرض أشبه بعلبة سردين، متنفسُّها الوحيد ساحل بحري شكل على الدوام مأساتها، فكان منذ القدم نقطةَ عبور الغزاة المحتلين، واليوم لم يتغير شيء من ذلك الوضع الحزين، بل ازداد سوءاً بعد أن أطبق “جيش الهاغانا”بحصار خانق على هذا الساحل، حتى لو أرادت صغار السلاحف العودة إلى لبحر بعد ولادتها لكان القصف مصيرها، لذا فقد ألقت السلحفاة الأم في روع صغارها أن العودة مستحيلة، وأن البقاء تحت الرمال خير لها من أن تعيد سيرة آبائها الممتدة لملايين السنين.

      أما من جهة الجنوب فالمعبر الوحيد لاستنشاق نسيم الحياة لدى ساكنة هذه الأرض المحاصرة هو في ملكية توأم شقيق، ظل ولقرون الحامي الحصين لها من تربص الطامعين، إلى أن قرر “سيد الخداع” الحاكم المحكوم أن يغلق هذا المتنفس ويقطع شرايينه تمهيدا لصفقة تسليمه لعدوه وهو في الرمق الأخير؛ ليجهز عليه هذا الأخير المحمل منذ 80 عاما بشر مستطير.

      على طرف علبة السردين تلك تمتد صحراء تحمل رياح الموت الحارة، تنفث نيرانها القادمة من فوهات الدبابات الرابضة هناك، والمستعدة لإطلاق نيرانها على أي جسم متحرك يطل برأسه من أرض العلبة المحاصرة، حتى أضحت الأمتار الفاصلة بينهما مقبرة لرؤوس طيور فصلت عن أجسادها وهي تتبع غريزتها في استكمال هجرتها الأزلية، بينما آثرت أسراب النمل تغيير مسالكها عموديا، مفضلة تعديل نمط حياتها والحفاظ على وجودها بعدما تأكدت يقينا أن “جيش الهاغانا” هذا لا يشبه في شيء ” جيش سليمان” الذي حذرت منه النملة الجدة باقي النمل بمروره جوار مستعمرتها، بل نطقت حفيدة هذه النملة الشهيرة بكلمات مُفادها أنها شاهدت بأم عينها رؤوساً مقطوعة لنملات عبرن الحدود خطأ، فكانت نهايتهن الأليمة رغم تحذيرهن من طرف سلحفاة معمَّرة فضلت هي كذلك أن تحفِر غارها عمودياً عوض اتباع سنة أجدادها في الهجرة والرحيل نحو الصحراء الذي أضحى أمراً مستحيلاً.

      لكن العنكبوت استطاعت الإفلات من هذا الحصار المميت، كانت تملك قدرة هائلة على التمويه جعلتها سيدة التخفي، فقررت أن تنشئ أنفاقا لو أراد الجني الأسود فك رموزها لما استطاع إلى ذلك سبيلاً.. استغرق منها العمل سنوات طوالاً، وجهداً وتخطيطاً عظيماً كان يبدو في البداية ضرباً من المُحال، حَفَرَتْ عميقا حتى وصلت أسفل تحصينات “جيش الهاغانا” الرابض خلف التلال، بل إن بعض أنفاقها وإمدادات خيوطها تجاوزت نيران الدبابات المجهزة بأحدث الاستشعارات، وحينها أعلنت أنه حان الوقت لكي تفتح علبة السردين تلك أسرارها وتوجه ضربة قاتلة لمن اعتقد يقيناً أنه قد أطبق حصارها..

كان يحيى الفتى الصغير المتقد الذكاء يتابع بشغف والده المولع بنسج قصص متخيلة للأطفال، يدعمها برسومات مبسطة حتى تتضح الرؤيا وتُستوعب الحكاية فتنتقل بيسر عبر الأجيال، ولعل أكثر ما ألهبت خياله هي قصة العنكبوت هذه.. دفع به خياله الجامح أن يوسع فيها ولم لا أن يحاكيها بعد أن يعمل على تحويلها من أوهن البيوت كما هي صفة بيوت العناكب، إلى أشد البيوت الخفية تماسكاً وتعقيداً ودهشة وإثارة للعجائب.. شمّر الفتى عن السواعد، وسار على نهج والده في إتقان التخطيط وإجادة رسم قد يعود يوما بالفوائد.. بل إنه نقل أفكاره إلى أقرانه ممن ولدوا في أرض “علبة السردين” المحاصرة منذ سنين، فكون فريق عمل من صغار المهندسين، مُهمته الأساسية الانقلاب على قوانين الطبيعة بتصاميم هندسية خارقة ترعب الغزاة المحتلين.

      وكذلك كان.. انتقل يحيى ورفاقه حينما تقدم بهم العمر، ومسهم الحصار وجور الأسر إلى تنفيذ ما اتفقوا عليه من تخطيط، عازمين على حفر أنفاق سرية بأعجوبة هندسية متشابكة المداخل يستحيل معها عبور”جيش الهاغانا” حين يستفيق من جنون العظمة ووهم التفوق الذي غلفته به نفسه الأمارة بكل سوء..

      لقدأسس يحيى العربي ورفاقه مجداً بخيوط العنكبوت، وشيدوا مدينة أنفاق رهيبة أسفل أرض “علبة السردين” التي أضحت مستعدة لمواجهة عدوها وآلات حصاره الجهنمية عن طريق أنفاقها نقطة الضوء الوحيدة لمتنفسها وصمودها، والآن بعدما قرر “جيش الهاغانا” الإجهاز على ما تبقى من حياة فيها بعد حصار سرق من عمره  سبع عشرةَ سنة كاملة، لتنبعث العنقاء من رمادها، ويحول يحيى ورفاقه رماد الحصار إلى شرارة نار تحرق هذا القاتل الجبار.

      جن جنون الجيش المنهار، وألقى عبر طائراته مئات الآلاف من القنابل بكل أنواعها على أرض “علبة السردين” الصامدة في وجه عصابة الأشرار،ممن هبوا لنجدة “جيش الهاغانا” المهزوم ليل نهارتمنوا فقط لو قبضوا على يحيى وبعض رفاقه ممن أذاقوهم طعم الهزيمة والخيبة والانكسار، لكن وعوض أن يخرج يحيى العربي أطل عليهم من فوهة النفق رعب في عينيه شرر ونار.

      تسلل فتى نحيف الجسم، بسيط الملبس سليل شعب جبار، لا تبدو عليه أمارات الخوف ولا هو آبه بما سيواجهه من موت يترصده على بعد أمتار، قفز من مدخل الكهف بخفة ورشاقة كأنه فتى الأقدار، دون سترة واقية للرصاص إلا من قذيفة محلية الصنع حرص يحيى العربي ورفاقه على أن يطلقوا عليها اسما يَغيظ الكفار، إنها “الياسين” التي حملت اسم الشيخ المؤسس، والأب الروحي شهيد أمة الأحرار.

      رفع الفتى الطائر القذيفة فوق كتفه، واتجه كالسهم الخاطف نحو دبابة “المركافا” التي شاع عنها أنها الساحقة، والقاصمة، والسابقة، واللاحقة، والتي لا يشبهها في الصنع صانع، ولا يملكها في العالمين مشترٍ ولا بائع.. ورمز جيش شاع عنه أنه لا يُقهر والأكثر نفيراً، وأنه لم يسبقه جيش بمثل ساديته منذ أن هبط أبونا آدم وأمنا حواء بعد غواية إبليس، وأن قادته هم ورثة هذا الأخير بل هم تجسيد له في الشر والقتل والتدمير.. صَوَّب الفتى القذيفة نحو المركافا بإحكام، وهو يرتل فواتح سورة ياسين بيقين تام، بدا الوحش الأسطوري ذو السبعة ملايين دولار وقد استسلم لقدره والنيران تلتهمه التهاماً، بل وتحرِق طاقمه الذي كان يظن إلى حين الدنو من النفق أن دبابتهم تلك هي الأكثر أماناً.. كل ذلك تهاوى في لحظة لا توازن بين المركافا والفتى الطائر، ذاك الذي حلق قي الأعالي وهو يعود إلى مدخل النفق مكللاً بالمجد الذي ناله أسلافه منذ الزمن الغابر.. وحدها تكبيراته ظلت تصدح في الأجواء، وكلماته المزلزلة تصدح في جو السماء:

      -وَلعَّت.. ولَّعت.

Font Resize