1 November, 2025

“قصي ومذبحة العبور من أقبية السجون” قصة للكاتب عبد السلام فايز

هل سمعتَ عن قصي في قصة “قصي ومذبحة العبور من أقبية السجون” للكاتب عبد السلام فايز، ضمن مشروع “حروف اللجوء” الذي أطلقته مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية بالتعاون مع بيت فلسطين للثقافة؟ هل تعلم كيف ذاق مرارة السجون والتعذيب لرفضه توجيه السلاح إلى أبناء وطنه، ثم كيف تحولت لحظات إعدامه المزعوم إلى بوابة حرية لم تكن سوى بداية لرحلة لجوء جديدة؟ أتساءل كم من اللاجئين مثل قصي يتجرعون كؤوس المرارة مرتين – مرة باقتلاعهم من وطنهم الأم، ومرة أخرى بتهجيرهم من وطن اللجوء؟

قصي ومذبحة العبور من أقبية السجون

عبد السلام فايز

 

 كم جميلةٌ تلك اللحظات التي يكون فيها الموتُ قريباً من الإنسان، ويحاصره من كل حدَبٍ وصوب، ثم يلوحُ أملُ النجاةِ على حين غفلةٍ من بين ثنايا ضيقة، ومن حيث لا يحتسب ذلك الإنسان الذي ظنّ في لحظةٍ من اللحظات أنّ بينه وبين الموتِ قِيدَ أنملة أو مسافة السكة.

تماماً كمن يقف على دفّةِ الإعدام بعدما عُصِبت عيناه، وأُثقِل بالسلاسل والأغلال، ولُفّ حبلُ المشنقةِ حول عنقه، ولم يبقَ سوى أن يُعطِي السجّان أمر التنفيذ فينطق الشهادة ويعبر إلى حياة البرزخ، إلّا أنّ شيئاً ما يحدث في اللحظات الأخيرة، أو مفاجأة من العيار الثقيل، تَحُول دون تحقيق كل تلك السوداوية، فتُحَلّ السلاسل والأغلال، ويُفكّ الحبلُ عن عنقه، ويُبصر النور بعد إزالة تلك العِصابةُ عن عينيه، فينطلق إلى الحياةِ من الجديد ولا ينظر إلى الوراء ولو لفتة واحدة، كي لا يستعيد لو مشهدا يتيما من تلك الأوقات العصيبة التي مرّ بها..

هذا ما حدث مع قصي، ولكنْ بتفاصيل مختلفة، حينما جثا على قدميه في سجنٍ مُظلِم لا يُسمَع فيه إلّا آهات المُعَذبين وقهقهات السجّان وصوتٌ خالدٌ آخر، هو صوت المفاتيح التي تتأرجح عند جيب الآسرين، والتي أصبحت كابوساً جاثماً على صدره بحكم أنها تُنذر ببدء جولات التعذيب، إلّا أن جولةً أخيرةً لقصي مع جدران سجنه ومفاتيح سجّانه أوصلته بالمخيّلة إلى ساحة إعدامٍ لم يرَها، ولكنّ تلك الساحة كانت منطلقاً له نحو الحرية لا الموت، بعكس التوقعات..

لبث قصي في سجنِ مظلم في بلدِ لجوئه، وهو دامي العينين والكفين، بل دامي التفكير أيضاً، بعدما سلبه آسروه حياته الزوجية وأبعدوه عن عائلته وأطفاله ظلماً وبهتاناً، وألقَوا به في غياهب السجون تحت وطأةِ التعذيب، يُقاسي الأمرّين، وما أدراك ما الأمرّان؟!!

أمّا الأول منهما فهي جولات التعذيب والشبح والضرب التي أصبحت واضحة للجميع لكثرة المتحدثين عن ذات الموضوع، وأمّا الثاني فهو مصيرُ عائلته وأطفاله الصغار الذين لا يعرف عنهم شيئا مذ وطِئت قدماه سيارةً فيها ملثمون تابعون للمخابرات اعتقلوه بعد توجيه عدة إنذارات له، بضرورة الالتحاق بفصائلهم المقاتلة في المنطقة ذاتها التي يعيش فيها قصي وعائلته، بحكم أنه يعمل في مشروعٍ خِدميّ للدولة.

وعليه فهو بنظرهم أصبح رجل قانون، وعليه أن يدافع عن الحكومة التي يعتاش من ورائها وبأموالها التي مهرت عليها صور وشعارات النظام الحاكم، ذلك النظام الذي أصرّ على قصي بالالتحاق، ثم ذهب به إلى ما وراء الشمس حينما أبدى امتعاضاً من ذلك، لأنه لا يريد أن يوجّه فوهة البندقية نحو أشخاصٍ شاركهم في يوم من الأيام لقمة العيش وفرص العمل ومقاعد الدراسة.

ولأن قصيّاً لاجئٌ في مخيمات ذلك البلد، وجدَ في ذلك المطلب أمراً مستحيلاً غير قابل للتنفيذ إطلاقاً، ليضعه ذلك في حيرةٍ من أمره آنذاك، لكنّ الوقت لم يسعفه أبداً، فقد قطعَ جولاتِ التفكير والاستخارة أمنُ البلاد الذين “عفطوا” قصي كي يلقنوه درساً قاسياً جرّاء مخالفة التعليمات والتوجيهات وينهالوا عليه بالضرب والتعذيب والإهانات بشتى الأصناف، وكأنه ارتكب جرماً فظيعاً، ولا جرم له سوى أنه رفض الانقلاب على الشعب الذي زالت بينه وبين قصي كل الفوارق، لدرجة أن الأخير لم يشعر ولو للحظة أن هناك فرقاً بينه وبين أشقائه في الحي.. في المدرسة.. في الجامعة.. في العمل.. في اليسر والعسر.. في السراء والضراء.. في الصداقة والجوار.. في القرابة والنسب والمصاهرة كذلك..

-لماذا رفضتَ أوامرنا العسكرية بضرورة الالتحاق بالقتال يا قصي؟

-لم أرفض تمرداً على أوامركم سيدي، بل لأني أجهل فنون القتال ولا خبرة عسكرية لدي، إضافة إلى أنني أعيل أولادي الذين لا معيل لهم بعد الله سواي.

-وهل عائلتك أهم من الوطن الذي آواكَ يوماً؟!! هذا ليس مبرراً، وسوف تدفع ثمن تقاعسك وتخلّفك عن تلبية ندائنا، ولا وقت لديَّ للحوار معك.. لنبدأ في الأفعال.

أُدخِل قصي إلى زنزانته التي كُتب على جدرانها “كان ياما كان”، وتحول قصي إلى مجرد رقم يُنادَى عليه من خلف القضبان، ليخرج للتحقيق، التحقيق الذي ليس له من اسمه نصيب، لأنه لم يحقق شيئاً سوى التعذيب والإجهاز على المعنويات واغتيال الاستقرار النفسي، فقصي بنظرهم هو المتآمر على أمن البلاد، ومُصدّر الأسلحة لمن يسمونهم المتمردين، والمحرّض على الشغب ولا يحترم قانون البلد الذي استضافه وكرّمه وآواه.

وأمام هذه التهم لم يعد بإمكان قصي أن يفكّر سوى بالموت الذي شعر به وكأنه قريب جداً، بل هو أقرب من الدماء للأوعية التي تنقلها.. فمن يا تُرى سوف يأتي ليدحض كل هذه التهم؟ ومن الذي سوف يُخلّصه من هذا السرداب الذي نفرَ إليه مرغماً، إلّا أن الأمل بالحياة وحبها والإصرار على خوض التجربة هي التي أحالت سجن قصي إلى ممر عبور نحو مرحلة جديدة ومن حيث لا يحتسب.. كيف ذلك؟

نُوديَ على قصي المُنهك ذات مرة، فلم يستطع النهوض بعدما خارت قواه جراء جولات التعذيب، وإذ بالسجان يدخل عليه كما تدخل قبيلة على فردٍ واحد، ولاحَ له ذلك الجندي الواقف أمامه وكأنه ظلٌّ لجبلٍ أشمّ، ربما بسبب غطرسته وجحوده وقسْوةِ قلبه وألفاظه النابية التي يُحسن انتقاءها بعناية فتنخر الصميم كسيخِ نارٍ عبرَ إلى العظامِ بسرعة بسبب لونه الجمريّ، أو ربما بسبب ضعف قصي الذي بان أمام ذلك الجندي مجرد كائنٍ ضعيف بين قدميه لا يقوى حتى على النهوض، فيرفعه بيديه ما استطاع إلى ذلك سبيلا..

-قم وانهض.. هناك أمر خطير يجب أن يُنفّذ حالاً.. خلال دقائق يجب أن تكون مستعداً..

-مستعداً لأي شيء؟ أرجوكم لا تنهوا حياتي رأفةً بأطفالي الذي ينتظرونني وراء جدران هذا السجن..

-ستواجه بعد قليل مصيرك المحتوم لأنك تمردت على أوامرنا، وبينك وبين ذلك المصير مسافة الطريق فقط.. لن يعفيَك شيء من ذلك.. انهض وجهز نفسك ولا تناقش..

-أخبِرني سيدي عن طريقة الإعدام.. هل ستكون رمياً بالرصاص أم شنقاً؟ أريد أن أهيّئ نفسي لملاقاة المصير..

لم يتمالك الجندي نفسه، فضرب قصيّاً ضرباً مبرحاً، ثم دخل جنود آخرون وعصبوا عيونه وكبّلوه وهم يسائلونه إذا كان يعرف الوِجهة التي سيصطحبونه إليها، بأسلوبِ سخرية دفع بقصي إلى الاعتقاد أن مصيره هو الإعدام برصاصةٍ ثمنها بخس، فيحاول استعطافهم أو التوسل إليهم ألّا يأخذوه إلى القتل وأن يكتفوا بتعذيبه، ولكنّ توجيه الخطاب لمثل هؤلاء كمن يستجدي بئراً مقفرةً ضالّة أن تسقيَه ماءً طهورا.

-أريد فقط أن أكلم عائلتي قبل موتي.. أرجوكم

-عن أي عائلة تتحدث.. أنت الآن في الوقت الضائع يا هذا.. انتهت فرصتك.. إلى اللقاء.

عبثاً تحاول لا كرامةَ لنازلٍ في ضيافةِ أمن البلاد..

كبّلوا قصياً وساقوه بين الممرات وهو يصطدم بالجدران، ويتقاذفونه يمنةً ويسرة، فبدأ يُناجي الله أن يُبقيَه كرمى لعيون أطفاله فحسب، ثم شعر قصي أنه أصبح في مكانٍ رحب، لتحمله ثُلة منهم وتقذفه إلى متن سيارة مكشوفة، أو مركبة لم يعرف قصي تفاصيلها بحكم أنه كان معصوب العينين، ثم مشت تلك المركبة بسرعة جنونية لمسافة تُقدر بنصف ساعة، كانت بالنسبة إلى قصي حياةً كاملة من الألف إلى الياء، لا سيما أنه كان يسمع صوت الجالسين معه وهم يتشاورون فيما بينهم عن كيفية إعدامه، ومصير الجثة وكيف سوف يخبرون أهله بموته، ومن سوف يتولى المهمة وما سبب الوفاة الذي سوف يكتبونه ورقياً، وأشياء أخرى من هذا القبيل، بينما يجثو قصي بين أقدامهم وهو يستجديهم ..

انخفضت سرعة السيارة ثم انخفضت أكثر فأكثر، فإذ بهم يقولون لقصي إن بينه وبين الموت فقط وقتاً قصيراً يكفي لقراءة سورة الفاتحة على روحه.. بكى قصي كثيراً.. ولم يعد هناك مجال لاسترجاع شريط الذكريات.. لحظاتٌ عصيبات.. ضع نفسك عزيزي القارئ في ذات الموقف لتستشعر حجم المعاناة التي كابدها قصي في هاتيك اللحظات، لأنّ هذه الأحداث ليست خيالاً، بل حقيقة، وليست أقصوصة بل واقعا عاشه قصي..

توقفت السيارة وأُنزِل قصي منها مسحولا بعدما عجز عن النهوض، وسمع صوت تلقيم البندقيات إيذاناً بالإعدام.. علا صراخُه.. علت صيحاتُه.. علا نداؤه لله.. نطق الشهادة ثم ما لبث أن استسلم للأمر الواقع، فوقف دقيقة صمت بعد الصخب والصراخ، لِتزول تلك العصبة عن عينيه وهنا كانت المفاجأة..

كان شقيقُه قد بدأ جولة مفاوضات معقدة بعد اعتقال قصي، وبعد جولات من الصد والرد جرى الاتفاق على الإفراج عنه مقابل مبلغ باهظ جداً، جُمِع على مدار أشهر من أقاربه المتبعثرين في القارة الأوروبية، ولكن الإفراج كان مشروطا بأمر واحد، وهو التوقيع على ورقة بأن قصيّاً قد مات ودُفن بعد إبلاغ العائلة، فيما يتولى المفاوضون من طرف أمن البلاد نسج خيوط بقية اللعبة في أروقة السجون ودوائر الأفرع الأمنية، بينما اتُفِق على تسليم قصي في منطقة ما، يتحفظ قصي على تسميتها، وهي تلك المنطقة التي اصطحبه إليها أولئك الجنود، والتي أزيلت فيها العصبة عن عيونه ليرى شقيقه أمامه، بعدما كان يظن أنه سيرى ملك الموت جراء تلك المسرحية التي نظمها آسروه طَوال رحلة الطريق والتي جعلوه من خلالها يظن أنه ذاهب للإعدام وليس للقاء شقيقه، كي يسلبوه حتى لو مجرد نصف ساعة من الفرح والسعادة..

أطلق سراح قصي الذي كره البلاد وما حوت، فقرر النفير نحو بلدٍ مجاور خلاصاً من هذه الأجواء المشبعة بالخوف والقلق والقتل والاعتقال، وبصعوبةٍ بالغة تمكن من العبور رفقة عائلته إلى ذلك البلد المجاور الذي يعج باللاجئين، ليجد نفسه أمام معضلةٍ أخرى، وهي عدم امتلاكه أوراقاً ثبوتية تخوّله التنقلَ أو العمل أو الحصول على أي حق من حقوق اللاجئ في البلد المستضيف، ولكنه كلما كان يتذكر مأساة سجنه وكيف أنّ الله خلّصه من فكّي السجن، شعر أن كلّ تلك المعاناة هي مجرد نقطة في بحر الوقت السابق الذي سلبه عمله وبيته وجواره وأصدقاءه، خاصة أن ماضيَه هناك ليس محصوراً في مخيمِه ، بل في مخيمات أخرى تنقّلَ إليها جراء الحرب الدائرة، ولكنه أضافها جميعاً إلى القائمة الطويلة للخسائر الباهظة التي كُبّد بها.

.. حاله حال الكثيرين من أبناء جلدته الذين أُخرِجوا من بلدهم الأم تحت وقع ماكينة الإجرام، التي مارست ضد آبائهم وأجدادهم شتى أصناف التهجير والتطهير العرقي وحرب الإبادة الجماعية، ليورّثوا الأبناء والأحفاد اللجوء، ومخيماتٍ مترهّلة، وأزقة ضيقة، وفقراً مدقعاً دفعهم إلى تأسيس حياتهم من جديد بعرق الجبين، لكن كل ما بنوه على مدار سنوات اللجوء أعيد هدمه تارةً أخرى، من بينها مخيماتهم التي تحولت إلى أطلالٍ بكاها شعراؤهم، بعدما هدمتها طائراتُ البلاد ونهبها تجّار الأزمات..

لا يملك قصي حتى مجرد صور لتلك البقاع الخالدة التي عاش فيها، ولا يملك أيضاً أموالا كافية يعبر من خلالها نحو القارة العجوز التي سبقه إليها ملايين البشر، ولا يملك سوى أولاده الذي يعملون بأجر زهيد في حين أنه من المفترض أن يكونوا حاليا في مدارسهم وجامعاتهم ينسجون مستقبلهم كحال بقية الفتية حول العالم..

أما زوجته التي من المفترض كذلك أن تكون وصيةً على أولادها طلبة الجامعات، تشرف على شؤونهم وتتبّع أحوالهم، فقد تحولت في غربتها إلى عاملة على ماكينة الخياطة وبأجر زهيد أيضا، فيما يعمل هو بين هنا وهناك بأجرٍ زهيدٍ كذلك، يرافقه في ذلك كابوس الترحيل الذي قد يحلّ ضيفاً عليه في أي وقتٍ كان، فيعيده سيرته الأولى هناك عند الحدود، يتوسّل المُهرّبين ومصّاصي الدماء بعدما تحولت حياته إلى شتاتٍ وشتات..

Font Resize