في صباح يوم شتويٍ عاصف، قررت أن أواجه نفسي وأحاول تغيير هذا الواقع الذي كنت أعيشه، قررت أن أخرج من ظلال الغربة التي التهمت كل شيء حولي وأبحث عن شعاع ضوء، حتى لو كان خافتًا.
سجن بلا قضبان
فايز أبو عيد
مرت السنوات على هذا الحال، وكان كل يوم يمر كالعمر كله. غادرت تلك الغرفة التي أصبحت مأوى مؤقتًا لي في مخيمٍ لا يعرف الراحة، الغربة كانت أكثر من مجرد بعد مكاني، كانت تهدم في روحي وتطفئ في قلبي ما تبقى من أمل، كأنني كنت أعيش في سجنٍ لا قضبان له سوى هذه الذكريات الثقيلة، كلما زادت المسافة بيني وبين بلدي، زادت المسافة بيني وبين نفسي.
كان الحديث عن العودة محض حلم، جملة يتنفسها كل فلسطيني بعيد عن وطنه، ولكنها جملة تتحطم عند أول شجرة في طريق العودة، تتحطم على واقعٍ أكثر مرارة من جميع الآلام التي عشناها.
كيف لي أن أعود إلى وطنٍ أراه يتغير كل يوم، كيف لي أن أرجع إلى المكان الذي لا أراه إلا في الذاكرة؟ كيف لي أن أواجه الأفق الممتد من هنا إلى الأبد؟
في صباح يوم شتويٍ عاصف، قررت أن أواجه نفسي وأحاول تغيير هذا الواقع الذي كنت أعيشه، قررت أن أخرج من ظلال الغربة التي التهمت كل شيء حولي وأبحث عن شعاع ضوء، حتى لو كان خافتًا.
بدأت أبحث عن شيء يملأ تلك الفجوة العميقة التي تشق قلبي وتبعثر أجزائي.
أردت أن أجد شيئًا يعيد لي بعض الأمل، شيئًا يمكنه أن يذكرني بمن أكون، ليس فقط من خلال جواز سفري أو أوراقي الثبوتية، بل من خلال ما أفعله وما أقدمه.
بدأت ألتقي بأشخاص آخرين من اللاجئين الفلسطينيين في المخيم الجديد، وشعرت وكأنني ألتقي بأنفاسي المفقودة، وكأننا كلنا عشنا نفس الجرح، وتجرعنا نفس الألم.
بدأت أشاركهم أفكاري وأحلامي، وعرفت أنني لست وحدي في هذا السجن الكبير المسمى “الغربة”، كنا نعيش في مكان واحد، في مأساة واحدة، ولكن آمالنا كانت تبدأ بالتماس معًا، فكلنا نبحث عن وطن في قلب هذا الغريب، نبحث عن مساحات من الأمل وسط الجدران التي تحيط بنا.
وفي تلك الأيام، تعرفت على رجل مسن يدعى أبو محمود، فلسطيني قديم في الغربة مثلي، كان يتكلم عن وطنه بطريقة جعلتني أشعر وكأنني أسمع الحنين ينساب من بين كلماته، كان يروي لي عن قريته التي هُجّر منها في عام 1948، وعن الأرض التي كانت تغنيها أقدام الأجداد، وعن الزيتون الذي كانت أغصانه تلامس السماء، كنت أستمع إليه وكأنني أعيش في تلك اللحظات، وكأنني أعود للحظات كانت قد ولّت مع الزمن.
أبو محمود لم يتوقف عن الحديث عن القدس، عن العودة التي ستكون يومًا ما، رغم كل الظروف، ورغم المسافات التي تفصلنا عن وطننا، كان كلامه يشعل في قلبي شعلة من الأمل، لكن سرعان ما كانت تلك الشعلة تخبو أمام واقع الغربة، على الرغم من ذلك، كنت أتمسك به كالقشة التي يمكن أن أنجو بها من هذا البحر العميق الذي يغرقنا جميعًا.
ولكن في وسط هذه الآلام، كان هناك شعاع من الضوء، بدأنا نحن، كأفراد فلسطينيين في المخيم، بتنظيم ورشات عمل ودورات توعية للشباب والأطفال، حول أهمية الحفاظ على هويتنا الفلسطينية، وكيفية الصمود في وجه العواصف.
ومع مرور الوقت، بدأنا نكوّن مجتمعًا صغيرًا يبني آمالًا على أسس من العمل المشترك والتعاون، كانت هذه الفعاليات بمثابة محاولة صغيرة للتمسك بتلك الجذور التي لم تذهب أبدًا، ولكن كانت مدفونة تحت وطأة الألم.
كنت أعمل مع الشباب على تطوير مهاراتهم في الرسم، في الكتابة، في التعبير عن أنفسهم، كان الأمر صعبًا في البداية، فقد كانت جراحنا أكثر من أن تعالج بكلمات، ولكن مع الوقت بدأنا نرسم لوحات تُظهر أوجاعنا، لكن أيضًا أملنا في العودة. وكان الأطفال يرسمون على الجدران صورة الوطن، يرسمون خريطة فلسطين كما رأوها في قصص آبائهم وأمهاتهم.
كان الأمر يشبه إلى حد كبير محاولة استعادة جزء من وطن مسلوب، ليس بالكلام أو الوعود، بل بالفن والحياة.
وبينما كنت أشارك هؤلاء الأطفال في أحلامهم وألوانهم، أدركت شيئًا مهمًا، أدركت أن الغربة ليست فقط في المكان، ولكن في تلاشي الأمل، في أن ترى أرضك وحلمك يتساقط أمامك مثل أوراق الخريف، لكنني أيضًا اكتشفت أن الأمل يكمن في أننا لم نتوقف، في أننا لم نستسلم لما هو مفروض علينا.
الغربة قد تسرق وطننا، لكنها لن تسرق أحلامنا.
الغربة قد تجعلنا نشعر بالضياع، لكنها لن تجعلنا ننسى من نحن.
مرت الأيام، وتغيرت الوجوه، ولكن لم يتغير شيء في قلبي، كنت أعيش في قلب الغربة، لكنني كنت أحمل بين يديّ حلمًا لا يموت، حلم العودة، حلم أن نعود إلى أرضنا ذات يوم، وعندما يمر الوقت بسرعة، أرى أن الأيام قد علمتني شيئًا: أن الألم الذي نشعر به في الغربة لا يعادل أبداً الألم الذي نشعر به عندما نفقد وطنًا يظل في قلبنا إلى الأبد.
كنت أبحث عن وطن في الغربة، وكان الوطن دائمًا في قلبي.




