1 November, 2025

“حيفا.. حيث يغني البحر في صمت الذاكرة” قصة للكاتب فايز أبو عيد

مهاجِرون يهود، يا بني… جاءُوا من بِلاد بعيدة، يقولون إن هذه الأَرض ستصير لهم! – كانت كلماته ثقيلة كالحجارة التي كان سامي يلقيها في البحر كل يوم للعب، ولكن اليوم لم تكن اللعبة مسلية.

حيفا.. حيث يغني البحر في صمت الذاكرة

فايز أبو عيد 

 بَحْرُ حَيْفَا يَتَنَفَّسُ سَخَاءً، تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ كَأَيْدٍ لُؤْلُؤِيَّةٍ تَمُدُّ أَصَابِعَهَا إِلَى السَّمَاءِ الْعَتِيقَةِ، تَسْأَلُهَا بِصَوْتٍ لَا يَعْرِفُ إِلَّا لُغَةَ الْخُلُودِ، لَمْ تَكُنْ بَدَايَتِي سِوَى ارْتِدَادِ خُطُوَاتٍ عَلَى شَاطِئِ الْعَائِلَةِ، حَيْثُ الْأَبُ صَيَّادٌ تَنْسَابُ رُوحُهُ فِي عُرُوقِ الْبَحْرِ كَالْمِلْحِ فِي الْأَمْوَاجِ. كُلُّ فَجْرٍ، كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَحْضَانِ اللَّيْلِ، وَيَعُودُ بِسِلْسِلَةِ أَسْمَاكٍ تَتَدَلَّى مِنْ يَدِهِ كَعِقْدِ نُورٍ. لَقَدْ عَلَّمَنِي الْبَحْرُ قِرَاءَةَ الْخُطُوطِ بَيْنَ الْأَمْوَاجِ: «مَنْ يَلْتَقِطْ صَمْتَ الْمَاءِ، سَتَنْهَالُ عَلَيْهِ خيراته.

أَرْكُضُ خَلْفَ ظِلِّ أَبِي وَأَنَا طِفْلٌ، أَصْطَادُ ضَحِكَاتِي مِنْ بَيْنِ شَبَكَتِهِ، وَأَرْصُدُ اللَّحْظَةَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ فِيهَا صِنَّارَتُهُ إِلَى قَلَمٍ يَكْتُبُ أُسْطُورَةَ الْأَسْمَاكِ، لَكِنَّ الْقَدَرَ كَانَ يُخَبِّئُ لِلْبَحْرِ وَرَقَةً مُغَايِرَةً:

فِي صَبَاحٍ سَجَّلَهُ الضَّبَابُ بِحِبْرِ الْغُيُومِ (1947)، وَقَفَ أَمِينُ –الشَّابُّ الَّذِي نَبَتَ جَسَدُهُ كَسَنْدِيَانَةٍ– بِجَانِبِ أَبِيهِ الْحَاجِّ مَحْمُودِ، الَّذِي صَارَتْ عَيْنَاهُ كَمِرْآتَيْنِ مُعَتِّمَتَيْنِ تَرْقُبَانِ الْبَحْرَ.

ظَهَرَتِ السُّفُنُ الْغَرِيبَةُ فِي الْأُفُقِ كَأَسْيَافٍ مُشْهَرَةٍ، تَحْمِلُ أَلْوِيَةً لَمْ يَعْرِفْهَا إِلَّا فِي كُتُبِ الْغُزَاةِ.

سَأَلَ سَامِي الصَّغِيرُ، وَأَصَابِعُهُ تَتَشَبَّثُ بِثَوْبِ أَبِيهِ كَجُذُورٍ تَخَافُ الْاقْتِلَاعَ:

– يَا بَابَا، شُوْ هَاد السُّفُن الْكَبِيرَة؟

نَظَرَ الْأَبُ إِلَى الْأُفُقِ، وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِغَضَبٍ مَكْبُوتٍ: 

– مُهَاجِرُونَ يَهُودٌ، يَا بُنَيَّ… جَاءُوا مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ سَتَصِيرُ لَهُمْ! – كَانَتْ كَلِمَاتُهُ ثَقِيلَةً كَالْحِجَارَةِ الَّتِي كَانَ سامي يُلْقِيهَا فِي الْبَحْرِ كُلَّ يَوْمٍ لِلْعِبِ، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ لَمْ تَكُنِ اللَّعِبَةُ مُسَلِّيَةً. 

هَزَّ الْحَاجُّ مَحْمُودُ رَأْسَهُ، وَصَوْتُهُ يَهْتِزُّ كَمِزْهَرِيَّةٍ مُكَسَّرَةٍ:

“لأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْسَى أَسْمَاءَ أَهْلِهِ…”

بَيْنَمَا كَانَتْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ تَرْسُمُ عَلَى الرَّمْلِ حِكَايَةَ حَيْفَا، كَانَتْ تِلْكَ السُّفُنُ تَمْحُوهَا بِأَحْذِيَتِهَا الْحَدِيدِيَّةِ.

الْحَاجُّ مَحْمُودُ (يُمسك بيد سامي بقوة، وصوته يرتجف كأمواج مضطربة):

” هؤلاء الغرباء جاؤوا ليأخذوا حتى الأنفاس الأخيرة من هوائنا، احفظ هذه الكلمات في قلبك: لن ينسى البحر وجوه أبنائه”

استعاد الحاجُّ محمودٌ في غمرةٍ ذِكرياتِ الزَّمَنِ الغابرِ، وَهوَ يُحدِّقُ في السُّفُنِ الغازِيةِ تَعبُرُ الأُفُقَ كَكائناتٍ مِيثولوجيّةٍ.

عادَتْ بِهِ اللَّحظاتُ إلى يَومٍ انْشَقَّ فيهِ بَحرُ حَيفا بِأضلاعِهِ، حِينَ نَزَلَتْ قَوارِبُ القَدَرِ المُظلِمِ تَتهادى كَالسُّحُبِ الحَمْقَاءِ، تَدفَعُها أَيْدٍ خَفيَّةٌ لِتُزاحمَ صَيّادي الزَّيتونِ وَالمِلْحِ.

 كُلَّمَا تَراجَعَ صَيّادٌ إلى ظِلِّ الصَّمتِ، تَقدَّمَتْ سَفينةٌ بِمَخالبَ حَدِيديّةٍ تَنْهشُ حَصى الشَّاطِئِ، حَامِلَةً أَنفاسًا غَريبةً تَتَلَوّى كَالنِّدَى عَلَى جَسَدِ البِلادِ.

وَحَيفا.. المَدينةُ العاجِزةُ، الَّتي أَدارَتْ وَجهَها نَحوَ الجِبَالِ كَي لا تَرَى أَبناءَها يَذوبونَ في ضَبابِ الوُجودِ، بَيْنَما الأَجنَبِيُّ يُلقي بِأثقالِهِ عَلَى شَاطِئِ الزَّمنِ، فَتَنْكَسِرُ الأَمْواجُ حَامِلَةً صَرَخَاتِ الصَّيَّادِينَ الَّتي تَاهَتْ في قَبضةِ المُستَعمِرِ الإنجِلِيزِيِّ، الَّذي فَتَحَ أَحضانَ الأَرْضِ لِلقادمِينَ الجُدُدِ، كَأنَّ فِلَسْطِينَ سِفرٌ مَفتوحٌ لِكُلِّ غَريبٍ!

إِلَّا أَنَّ صَوْتًا وَاحِدًا كَانَ قَدْ عَلَا فِي حَيْفَا مُنْذُ سِنِينَ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ انْطَفَأَ سَرِيعًا، كَانَ شَيْخًا قَادِمًا مِنْ مَدِينَةِ جَبَلَةَ السُّورِيَّةِ، اسْتَطَاعَ بِبَلَاغَةِ لِسَانِهِ أَنْ يَأْسِرَ قُلُوبَ أَهْلِ حَيْفَا، وَيَسْتَنْطِقَ مَا فِي دَوَاخِلِهِمْ مِنْ غَضَبٍ، لَقَدْ تَعَوَّدَ الْحَاجُّ مَحْمُودُ أَنْ يَسْتَمِعَ لِكلام ذَلِكَ الشَّيْخِ وصوته الجهوري كرعدة في سماء صافية):

“يا أبناء حيفا! البحر الذي يُغذيكم اليوم قد يُصبح غدًا سجنًا لأساطيركم! لا تبيعوا ذرة من ترابها، فالأرض تُولد أحرارًا أو لا تُولد!”

كان هناك صوت يصرخ في دواخلنا بصمت:

“لكن الإنجليز يدعمونهم! ماذا نقدر نفعل؟”

وكأن الشيخ يسمع ما بصدورنا من كلمات (بعينين تشتعلان بإصرار):

“المقاومة ليست بالبنادق فقط، بل بالبقاء. وجودكم هنا هو صرخة في وجه الزمن.

لَمْ تَزَلْ كَلِمَاتُ الشيخ تَتَرَدَّدُ صَدَاهَا فِي صَدْرِ الحاج محمود رُغْمَ مُرُورِ السِّنِينَ. تُحْدثُ فِي جَسَدِهِ قَشْعَرِيرَةً غَرِيبَةً، كَانَتْ نَاقُوسًا يَدُقُّ، وَالْيَوْمَ يَقِفُ أَهْلُ حَيْفَا أَمَامَ خَطَرٍ دَاهِمٍ يَقُولُ لَهُمْ: «هَذَا الْبَحْرُ لَنَا الْآنَ!». 

فِي إبريل مِنْ عَامِ 1948، بَيْنَمَا كَانَ الْحَاجُّ مَحْمُودُ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّهِ فِي الْمِينَاءِ، سَمِعَ صَوْتًا خَائِفًا يَحْمِلُ خَبَرًا: «الْهَاجَانَاهُ هَاجَمَتْ قَرْيَةً مُجَاوِرَةً! أَحْرَقَتْ بُيُوتًا وَخَطَفَتْ رِجَالًا!». انْتَشَرَ الْخَبَرُ بِسُرْعَةٍ، كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَبْدُو مُخْتَلِفًا؛ حَتَّى الْبَحْرُ نَفْسُهُ بَدَا مُختَلِفا.

الْأَمْوَاجُ الَّتِي كَانَتْ تَحْمِلُ سَمَكًا، صَارَتْ تَجْلِبُ الْمَوْتَ. 

وَازْدَادَتْ هَمَسَاتُ الْحَرْبِ ارْتِفَاعًا، تَحَدَّثَتِ الصُّحُفُ عَنِ اشْتِبَاكَاتٍ، وَتَزَايَدَ حُضُورُ الْهَاجَانَاهِ، وَفِي إِحْدَى الْأَمْسِيَّاتِ، عَادَ أَمِينُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقَدِ اكفهرّ وَجْهُهُ مذعوراً:

– الْهَاجَانَاهُ اسْتَوْلَتْ عَلَى طَبَرِيَّا! … البيوت صارت رمادًا!”

– وَارْتَجَفَتْ يَدَا زوجته فَاطِمَةَ وَهِيَ تَصُبُّ الشَّايَ بِالنَّعْنَاعِ: 

“هنبقى هنا… مهما حصل. البحر اللي ربّانا رح يحمينا.”

أمين:

“البحر صار عدونا، الموجات صارت تقذف يهوداً بدل السمك.

فِي رَبِيعِ عَامِ 1948، كَانَتْ حَيْفَا تُزْهِرُ كَعَادَتِهَا بِأَشْجَارِ البرتقال الَّتِي تَلُفُّ التِّلَالَ، وَلَكِنَّ رَائِحَةَ الْبَحْرِ الْمَمْزُوجَةَ بِالْمِلْحِ لَمْ تَعُدْ تُغَطِّي عَلَى رَائِحَةِ الْخَوْفِ. كَانَتِ الطَّلَقَاتُ تُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ، وَالسَّمَاءُ تَمْتَلِئُ بِدُخَانِ حَرَائِقَ لَمْ تُطْفَأْ. أَمِينُ –الَّذِي عَمِلَ طَوَالَ حَيَاتِهِ فِي مِينَاءِ حَيْفَا– أَغْلَقَ الْبَابَ بِعُنْفٍ وَهُوَ يَصْرُخُ: 

– جَهِّزُوا أَنْفُسَكُمْ! لَا وَقْتَ لِلِانْتِظَارِ! 

حَمَلَتِ الْعَائِلَةُ مَا اسْتَطَاعَتْ: بَعْضَ مَلَابِسَ، وَصُورَةَ الْجَدِّ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْجِدَارِ، وَالمصحف الَّذِي وَرِثَتْهَ أُمُّ أَمِينٍ عَنْ أُمِّهَا. الصَّغِيرُ سَامِيُّ –ذُو السَّبْعِ سِنِينَ– التَصَقَ بِثَوْبِ أُمِّهِ وَهُوَ يَسْأَلُ: 

– لِمَاذَا نَتْرُكُ الْبَيْتَ؟ – لَكِنَّ جَوَابَهَا كَانَ دَمْعَةً اخْتَلَطَتْ بِغُبَارِ الطَّرِيقِ. 

كَانَ الشَّارِعُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمِينَاءِ أَشْبَهَ بِمَسِيرَةِ أَشْبَاحٍ. جِيرَانُهُمْ آلُ صَبَّاغٍ كَانُوا يَجُرُّونَ أَطْفَالًا نَائِمِينَ عَلَى عَرَبَاتٍ خَشَبِيَّةٍ. سَمِعُوا صَرَخَاتٍ مِنْ خَلْفِهِمْ: 

– احْتَرَقَ بَيْتُ أَبِي نَاصِرٍ! – ضَمَّتْ أُمُّ سَامِي ولدها سَامِي إِلَى صَدْرِهَا، بَيْنَمَا رَكَضَتِ ابْنَتُهَا لَيْلَى (14 عَامًا) تَحْمِلُ أَخَاهَا الرَّضِيعَ أَحْمَدَ –الَّذِي بَكَى مِنَ الْجُوعِ– وَتَقَدَّمَ أَمِينٌ كَالسُّورِ، وَعَيْنَاهُ تَبْحَثَانِ عَنْ أَيِّ وَجْهٍ مَأْلُوفٍ فِي الزِّحَامِ. 

عِنْدَ مُنْعَطَفٍ، رَأَوْا جُنْدِيًّا بِرِيطَانِيًّا يُوَجِّهُ بُنْدُقِيَّتَهُ نَحْوَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ الْعُزَّلِ. صَرَخَ جَارُهُمْ أَبُو حَسَنٍ: 

– ارْجِعُوا! الطَّرِيقُ إِلَى الْبَحْرِ مَسْدُودٌ!

أبو حسن (يصرخ مُحذّرًا مرة أخرى):

“ارجعوا! طريق البحر مسدود!”

أمين (يتقدم نحو الجندي بخطوات ثقيلة):

“أنتْ… اللي كنتوا تِعدونا بالحماية! وين عدالتكم؟”

الجندي البريطاني (يتجنب نظرة أمين):

“الأوامر هي الأوامر. ابحثوا عن طريق آخر.”

أمين (يهز رأسه بمرارة):

“طريقنا الوحيد هو ما صنعتموه أنتم: طريق الموت.”

الْتَفَتَتِ الْعَائِلَةُ نَحْوَ الْجِبَالِ؛ حَيْثُ طُرُقُ التُّرَابِ الْوَعِرَةُ تَبْتَلِعُ آلَافَ الْأَقْدَامِ الْحَافِيَةِ. 

مَشَوْا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا طَعَامٍ إِلَّا حَفَنَاتٌ مِنَ التِّينِ الْمُجَفَّفِ. فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، اخْتَبَأُوا بَيْنَ صُخُورِ وَادِي النِّسْنَاسِ. رَوَتْ لَيْلَى لِأَخِيهَا قِصَّةً عَنْ جِنِّيَّةِ الْبَحْرِ الَّتِي تَحْمِي الْأَطْفَالَ، وَلَكِنَّ سَامِي قَالَ: 

– أَنَا أَخَافُ مِنَ الْجُنُودِ، لَا مِنَ الْجِنِّيَّةِ! – هَمَسَتْ أُمُّ أَمِينٍ –الَّتِي لَمْ تَنَمْ مُنْذُ أَيَّامٍ– بِصَلَاةٍ كَانَتْ تُكَرِّرُهَا كَأَنَّهَا تَنْزِعُ الْخَوْفَ مِنْ رُوحِهَا. 

فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَصَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ مَجْهُولَةٍ. أَخْبَرَهُمْ أَحَدُ الْمُزَارِعِينَ أَنَّ طَرِيقَ عكا قَدْ أَصْبَحَ خَطِرًا، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ تَغْيِيرَ الِاتِّجَاهِ نَحْوَ لُبْنَانَ. نَظَرَ أَمِينٌ إِلَى زَوْجَتِهِ، وَعَيْنَاهُ تَقُولَانِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ لَفْظَهُ: «كُلُّ الطُّرُقِ تُؤَدِّي إِلَى الْمَجْهُولِ!». 

بَعْدَ أَسَابِيعَ، وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مُخَيَّمٍ لِلَّاجِئِينَ بَيْنَ تِلَالٍ قُرْبَ صَيْدَا. خَيْمَةٌ بَالِيَةٌ مِنَ الْقُمَاشِ الْأَسْوَدِ أَصْبَحَتْ «بَيْتَهُمْ». عَلَّقَتْ أُمُّ سَامِي صُورَةَ الْجَدِّ عَلَى عَمُودِ الْخَيْمَةِ. سَعَلَ سَامِي مِنَ الْحُمَّى، وَغُبَارُ الْمُخَيَّمِ يَخْنُقُهُمْ –تَنَاقُضٌ صَارِخٌ مَعَ هَوَاءِ الْبَحْرِ فِي حَيْفَا. هَمَسَتِ الْجَدَّةُ بِأَغَانٍ قَدِيمَةٍ، وَصَوْتُهَا مُتَقَطِّعٌ. أَمِينُ –الَّذِي كَانَ صَيَّادًا ذَاتَ يَوْمٍ– يَقِفُ الْآنَ فِي طَابُورٍ لِلْحُصُولِ عَلَى حِصَصِ الطَّعَامِ، وَيَدَاهُ خَامِلَتَانِ. 

الْجَدَّةُ (تُهدهد الرضيع أحمد بينما تُردد أغنية قديمة):

“نام يا حبيبي، نام… البحر جايبلك نجومه، حتى لو صار حِداد.”

سامي (يسعل من الغبار):

“جدتي، البحر رح يسمع أغانيك؟”

الْجَدَّةُ (تلمع عيناها بدموع مُحتجزة):

“البحر يا ولدي زي الأم… دايما بيسمع، حتى لو ابتعدت.

كان سامي يسأل كل ليلة: “إمتى بنرجع حيفا؟”. الحاج محمود، أجاب: “البحر رح يرجع يغني.”

أمين (يُغمض عينيه متخيلًا الأمواج):

“أكيد… أكيد.”

لكن البحر الذي تركوه وراءهم صار ظلًّا في ذاكرتهم، وصارت حيفا حكاية ترويها ليلى لأخيها الصغير تحت ضوء القمر، بعيدًا عن رائحة البحر.

 

Font Resize