لم نكن نعلم أن الأمان مقرون بذلك المخيم، وما إن فقدنا المخيم حتى فقدنا الأمان الداخلي على الأقل.
هذه قصتي!
حنين العلي
لم يكُن ذلك النهار نهاراً كباقي الأيام ولم يمُر مرور الكرام، بل مرّ كعاصفة هدمت ما كان يقف منذ عشرات السنين.. ذلك النهار المشؤوم نعم المشؤوم هذا التعبير الأقل وصفاً لتلك الحادثة التي ألمت بشعبٍ لم يكد له أن ينسى حادثته الأولى الأكثر ألماً.
أذكر صوت بابنا يُطرق بقوة وصوت جارنا بالطرف المقابل وهو يقول “معنا بس للساعة 7 ونكون طالعين”، الجملة التي جعلتني أقف وأنا كالجليد وجعلت وجهي المفعم بالحياة رغم أصوات القذائف التي سمعتها بالأمس يتحول إلى وجه إنسان يحتضر! نعم لم يكن سهلاً أن أرى أمي وهي تدور في نفس المكان عدة مرات وتردد جملة “وين بدنا نروح بحالنا” سؤالٌ منطقي فلطالما عشنا في مخيمنا الذي كان بمثابة عش أمان لآلاف الفلسطينيين، والذي كان الخروج منه بمثابة غربة لنا، كيف ونحن نخرج بلا عودة؟؟
ولم يكن سهلاً رؤية الخوف في ملامح أخي الصغير وسؤاله المتكرر “بابا وين رح نروح”، حيرة أبي بعد هذا السؤال لطالما دبت في قلبي الرعب.. إن كان أبي لا يعلم مصير وجهتنا في هذا اليوم العاثر فمن يدري؟
توقفت الحياة لمدة 5 دقائق وذهب كل منا في تفكيره ومحاولة إيجاد طوق نجاة إلى أن عاد صوت جارنا ذاك وهو ينبهنا أن الوقت يمضي وليس لدينا الكثير! عدنا جميعاً إلى واقعنا المرير وقررنا مواجهته، بدأت أمي بأخذ أشيائنا وأثاث المنزل الذي لطالما اختارته بعناية وحفرت أيدينا عليه بصمات كثيرة.. ثم أتى صوت أبي وهو يقول “لا تكتري أغراض يومين وراجعين” هذه كانت نفس الجملة التي قالها والد جدي لزوجته عندما خرج من فلسطين ولم يكن يعلم أن هذين اليومين أصبحا سنين وليست حتى سنتين.. لم أكن أعلم أن مصيرنا سيصبح على ذات الرتم.
تأملت غرفتي وسريري.. مكتبتي وألعابي.. نظرت كثيراً فقد كان هناك إحساس قويّ في داخلي يدفعني لأشبع عيناي من طفولتي المركونة في زوايا غرفتي، شيء ما كان يقول لي إنني سأترك طفولتي خلفي بعد الخروج من عتبة الباب، ربما لهذا السبب لم أُصر أن آخذ شيئاً من طفولتي كتذكار!
خرجنا ولم نأخذ إلا القليل جداً، تركنا بيتاً لطالما ضحكنا وبكينا وتشاجرنا خلف جدرانه المعلقة عليها صورنا العائلية المليئة بالحب.
خرجنا ولم نكن نعلم أنه لا عودة. سار أبي بنا في أزقة المخيم لآخر مرة.. في كل شارع كنت أرى الكثير من الناس الذين يشبهوننا، يمشون مثقلين بالهموم والأحزان.
كنت قد اعتدت عندما أخرج مع أبي في سيارتنا أن أخرج رأسي من الشباك وأغمض عيناي لأستمتع بالهواء الذي يأتي، في ذلك اليوم بالذات لم أستطع أن أرمش لدرجة أنني تأملت كل حيّ وكل شارع، لقد تأملت بيت جدي ودكانة الوزير وأم نزار ومشفى فلسطين وشارع المدارس، لقد كنت أنظر نظرة المودع لكل مكان أمره! حتى وصلنا إلى تلك الساحة التي بدت وكأننا في يوم الحشر على أنغام فيروز “وسألت أهل الدار وين الدار وأهل الدار”، جميع الناس خرجت تاركة خلفها الكثير من الذكريات كاتمة داخلها الكثير من الآهات التي ما لبثت دقائق وسمعتها من أب أضاع طفلته بين هذا الكم الهائل من البشر.. بدأ بالصراخ “يا ليييين” “يابا لييييييين وينك” ولين لم تُجب حتى بعد النداء الخمسين، لقد صُعقت حينها من هول الكارثة التي ألمت بنا وأوصلتنا لهذه الحال.
مرّ على هذه الحادثة 10 سنوات ولا يزال صوته عالقاً في ذاكرتي وكأني أسمعه للتوّ.
لم نكن ندري أن المخيم ذا الحارات الضيقة وبعض الطرقات غير المعبدة هو نقطة الأمان الوحيدة لنا، لم نكن نعلم أن الخارج لهذه الدرجة موحش وأن الطرق المعبدة توقع والحارات الواسعة تخنق!
لم نكن نعلم أن الأمان مقرون بذلك المخيم، وما إن فقدنا المخيم حتى فقدنا الأمان الداخلي على الأقل.
تلك الساحة لم تكن المحطة الأخيرة لنا؛ بل كانت بداية الألم الحقيقي، خرجنا تاركين خلفنا قلوبنا مجبربن لا مخيرين.
ولم يكن أمامنا سوى مناجاة أصدقاء والدي الذين يسكنون خارج المخيم لمساعدتنا لحين إيجاد مأوى آخر نأوي إليه، وبالفعل لم يبخل علينا صديق والدي في مدينة جرمانا بالمساعدة وأسكننا في منزلٍ له، لا تزال جملته عالقة في ذهني عندما قال لوالدي “يا غريب كُن أديباً”، وهل أصبحنا غرباء حقاً؟
مضت عدة أيام لم نستطع من خلالها أن نستشعر الراحة ولا حتى الأمان. ثم قرر والدي أن نذهب إلى أقارب والدتي في لبنان لحين العودة إلى مخيمنا.
عددنا عدة السفر وأكملنا أوراقنا وبدأنا بمحطة جديدة لا نعلم ما تخبئ لنا في طياتها، لا أنسى يوم السفر عندما ذهبت أمي لتودع أخاها الذي كان بمثابة نصفها الآخر ولم يتحمل قلبه وداعها. كيف وهي رفيقة القلب وصغيرته كيف تذهب هكذا لمكان لا يستطيع أن يراها فيه كل مساء، كيف وهي تذهب إلى المجهول بدون معرفة إن كان هناك لقاء آخر أم سيكون اللقاء الأخير؟ لقد فضّل البقاء في غرفته على أن يودعها، لكنه قلب الأخ وما أدراك ما قلب الأخ! خرجنا من المنزل وإذ بصوته يأتي من الشرفة لا يكادُ يُسمع “مع السلامة خيتا” “تروحي وترجعي بالسلامة خيتا يا حبيبتي” وعيناه قد امتلأت بالدموع، ما أقساه من وداع!
وصلنا إلى لُبنان بعد معاناة طويلة على الحدود السورية والمصنع اللبناني، لقد كان يوماً عصيباً وكانت السماء تمطر في ذاك الوقت لا أعلم لمَ شعرت حينها بأني فعلاً أصبحت غريبة، وأنّي لا أنتمي إلى ذاك المكان رغم ازدحامه وخلُوِّه من أصوات القذائف.
لقد أتى لذاكرتي فوراً ذاك المنزل الذي جلسنا فيه ببداية الأمر، كان يتألف من غرفتين وصالة ويعيش به أربعة أفراد غيرنا نحن الـ 6 أفراد! لقد كنا 10 أشخاص في منزل لا تتجاوز مساحته الـ 100 متر!
ليكن! لن نطيل المبيت فهي مجرد أيام ونعود إلى مخيمنا الدافئ.
مرت أيام وشهور ولم نعد، حينها أيقنا أنه لا عودة، وعلينا البدء من جديد ومن الصفر إن صح التعبير، بدأ والدي بالبحث عن مدارس لإكمال تعليمي أنا وأخي الأصغر مني سناً، لقد كان أكبر همه أن يجد مدارس مناسبة لنا، ولوضعنا المادي لأننا ببداية الأمر كنا لا نملك سوى رحمة الله، وبالفعل لم ييأس والدي واستطاع إلحاقنا بمدارس خاصة باللاجئين، نعم لقد أصبحنا لاجئين مرة أخرى.
ثم بدأنا رحلة البحث عن منزل جديد نعيش فيه أنا وعائلتي فقط، نستشعر به الخصوصية التي فقدناها منذ شهور، وبعد معاناة وجدنا منزلاً مكوناً من غرفتين ومطبخ بدون أرضية، فقط حجر أيّ “طينة”، لقد كنت كلَّ ما دخلت إليه أقع وأتألم حتى حفظت حفرَه وتعرجاته المقيتة.
بدأنا نمثّل التأقلم والتعود على تلك الحياة وأصبحنا نعي تماماً ما نعيشه من رحلة لجوء طويلة الأمد. بدأت أوضاعنا بالتحسن شيئاً فشيئاً ودراستي أنا وأخي لم تخلُ من الصعوبات نظراً لاختلاف المناهج الكبير بين سوريا ولبنان، وعدم تقبل فئة من الطلاب والمعلمين اللبنانيين لوجودنا بينهم بصفتنا لاجئين، لكننا استطعنا النجاح والاستمرار بجدارة.
أصبحت الأيام سنين وليست أشهراً، فقد مرّ على هجرتنا 5 سنوات مليئة بالعقبات والصعوبات.
وداع خالي لأُمي فعلاً قد كان الأخير، فبعد خروجنا بثلاث سنوات توفي خالي ولم تستطع أمي أن تودعه أو تلمس كفيه للمرة الأخيرة، ولا حتى استطاعت عناقه عناقاً بديلاً عن الذي رفضه عندما خرجنا من سوريا، لقد بقيت “حسرة” في قلبنا جميعاً، لكنه قدر الله ولا اعتراض.
لم تكن لُبنان أرحم بكثير مما عشناه قبل اللجوء إليها فلم نستطع الاستقرار فيها بعد غلاء المعيشة وصعوبة الإقامة التي يتطلب تجديدها مرة كل ثلاثة أشهر؛ فقررنا البدء برحلة جديدة لعلها الأخيرة وكانت وجهتنا هذه المرة إلى تركيا.
خرجنا وكلنا أمل بإيجاد مستقبل وحياة أفضل من السابقة، وبالفعل كانت خياراً صائباً من حيث المعيشة والإقامة والعمل، لكن وبمثل حالتي خرجت قبل إتمام الثانوية العامة؛ فقد واجهت صعوبات كثيرة جعلتني أشعر أنني على وشك خسارة مستقبلي الذي لطالما كنتُ عنيدة بمحاولاتي للوصول إليه، كان يجب عليّ أن أُتمّ الثانوية العامة للدخول إلى الجامعة ولأنني وصلت متأخرة لم أستطع الدخول إلى المدارس التركية حيث إنها كانت قد بدأت، درست في مدرسة عربية وحصلت على شهادة “البكالوريا”، اعتقدت أنها اللحظة المنتظرة التي لطالما حلمت بها لحظة دخولي إلى الجامعة والانطلاق لتحقيق حلم إعلامية المستقبل، ولكن! لم أستطع نعم، فكان يجب أن أدرس اللغة التركية والحصول على شهادة التومر، بالإضافة إلى تقديم امتحان اليوس الخاص بالطلاب الأجانب، كان أمر التوفيق بين اللغة وامتحان اليوس صعباً لكنني استمريت، ولم أسمح للظروف أن تمنعني، كنت أضع مخيمي بين عينيّ وأتخيل نفسي عندما أصبح إعلامية، كيف سأتحدث عنه، وكيف سأفتخر بأنني ابنته، لقد تخطيت الكثير من الصعوبات وبات حلم الجامعة قريب جداً، اجتزتُ امتحان اللغة وحصلت على المستويات المطلوبة لدراسة الجامعة، وحصلت على منحة أيضاً لدراسة فرع آخر غير الإعلام، وحلمي بدراسة الإعلام لن يغيب عن مخيلتي فالأحلام تؤجل ولا تموت.
اليوم وبعد 12 سنة من خروجنا من مخيم اليرموك وبالرغم من كل الصعوبات التي مررنا بها؛ لا يزال المخيم في مخيلتنا ولا يزال حلم العودة إليه، ومن ثم إلى فلسطين الحلم المهيمن على قلوبنا، وسنبقى بانتظار ذلك اليوم الذي نصرخ فيه بصوتٍ يهز صداه العالم؛ اليرموك عاد لأصحابه والحق لم يمت.