أتراهم يدركون في قصة “بين أنين وألم” لكاتب وائل الزهراوي التي تأتي ضمن “حروف اللجوء”، كيف يحترق قلب أبٍ مكسور القدم والروح، وهو يراقب ابنته تبتسم له رغم تعبها في المشغل؟
ألهذا الحد يقسو القدر على لاجئ فلسطيني، حتى صارت ابتسامة ابنته المتعبة توجعه أكثر من كسر عظامه، في حين لا يجد من الأونروا سوى نظرات باردة تقتل ما تبقى من أمله؟
بين أنين وألم
وائل الزهراوي
وقع خطواته يبدو كوجيب جيوش من الحزن ستطرق باب منزلي.
في كل مرة أسمع تتابع خطواته أتمنى لو أني أتناول الحياة من جديد.
لعلي أبقى طفلاً فلا أكبر.. إنها فخ كما قيل. ستستدرجك الحياة أنت وأحلامك الكبرى حتى تغدو أعظم أمانيك أن تستمر دون وجع أكثر يخبئه الغد لك.
وأذكر دائماً قول سليمان بن عبد الملك حين حَضَرَه الموت قال: اللهم اغفر ما بيني وبينك واحمل عني ما بيني وبين الناس
عبارات الاعتذار المكررة باتت تملأ فمي ملحاً ونظرات الرجل الطيب صاحب البيت تخترق أقصائي، حين يبدي امتعاضاً مشوباً بكثير من حب فعل الخير بالإكراه، لأنه كما أريد ومن عظيم حاجتي وليس كما يريد، من قال إني أحب أن يتفضل علي الآخرون، لعلي اشتهي على عكس ما يتصورون أن أعطيهم وأحسن إليه، لكنها رغبة كرغبة الجدران بالبوح، مستحيلة حتماً. حين خطوت أول خطوة في طريق الرحيل نحو العذاب هذا هنا، لم أكن أدرك أن ما تخيلته عذاباً هناك سيمسي نعيماً من شدة الوجع هنا. في سوريا تبدو الحياة ما زالت فتية فالبشر هناك ما زالوا يلتحفون الأحلام حتى لا يقتلهم برد الحقيقة.
أما الآن فها أنا أقف في طابور الذل ذاته لأجرع نظرات الموظفين المكفهرة وجوههم أبداً كأنهم يعالجون أوراقاً تحمل وباء سيعديهم بعمق الأسى المكتوب فيها. الأونروا. قال لي صديق لا يقرأ ولا يكتب أنه حين عرف اسمهم قال لابنته الكبرى اكتبي:
الألف أنين والواو وجع والنون ندم والراء رحيل والواو وصب والألف الأخيرة ألم. ضحكت وقلت له نعم بين أنين وألم صدقت
أخذ الموظف يطالع أوراقي وهو يردد:
أنت لم يصدر حكم قضائي بحقك يلزمك بدفع الشهور المتراكمة عليك جراء تخلفك عن دفع أجرة المنزل، ونحن لن نساعدك حتى يصدر قرار ملزم بحقك، حملقت في عينيه، لقد قالها هكذا دون حتى أن تتغير ملامح وجهه، ما سمعته كان عبارة تعني لي:
((حين تموت لا تقلق نحن من سيهتم بمراسم التشييع، كل ما عليك أنت هو أن تموت فقط ولا تقلق بعدها))
حملت أوراقي خائباً وأنا أفكر بطريق العودة لعلي لا أمضي من ذات الطريق الذي رأيت فيه ابنتي تعمل في مشغل وهي مكتومة الأنين.
حين يأتي الليل الذي لا يرحل من داخلي أبداً وتعود ابنتي للمنزل، أرتعد من بسماتها التي تجاملني بها كي لا أشعر بجبال القهر الراكدة فوقها، تبتسم لي حتى لا أبكي حين تلحق بسريرها المكسر، رغم أني أبكي على أي حال كل الوقت.
– أستلقي حيث أراقب المصباح الشاحب ذاته في سقف الغرفة، وأتذكر ذاك الصباح البارد حين صحوت وذهبت للعمل، كانت كلتا قدميَّ تحملاني، وكنت رغم الأسى يسرني أني أفعل ما بوسعي لأجل بناتي الأربع، وحين ذات وجع، زلقت رجلي وشعرت بشهيق قلبي وأنا أهوي من أعلى السقف إلى أسفله.
والحقيقة أنني مازلت أشعر أن رحلتي نحو القعر مستمرة، إنها لحظة السقوط، تلك اللحظة التي تفصل بين ارتطامك وتحطمك وبين وعيك بأنك على موعد مع مصير محتوم ستقصمك إلى نصفين.
حين ارتطمت بالأرض الأسمنتية وكسرت قدمي، أول ما تراءى لي دموع بناتي الأربع غرقت في دموعهن قبل غرقي في بحار الوجع التي أتخبط فيها من حين ذاك وضع الأطباء قضباناً من حديد في قدمي، أعتقد أني أحتاج إلى مثلها في روحي، فأنا مهشم الروح أكثر مني مهشم القدم. أمسيت عاجزاً، ومتى كنت قادراً مثلاً.
مطالبتك بالكرامة في بلاد تعج بالجلادين ستحرمك من الحرية، إلا أن مطالبتك بالحرية ستحرمك من الحياة ذاتها وللأبد.
صباح جديد. لست أدري لم لا يستجيب الله لدعائي، البارحة همست له بحق كل عمل صالح فعلته أن يأخذ روحي، وأمنية أخيرة أن يخفف وطأة خبر موتي على بناتي وزوجتي لا أكثر.
يؤلمني الصحو أكثر من كل شيء آخر.
إنه هدأة تحمل بعدها عواصف تعبث وتبعث فيك كل ما تريد وكيفما تريد.
حين أفكر كيف يمكن أن أعاين الحياة رغماً عني وأن البشر معلنون بالفردية، فنحن حتى حين نموت جماعات نشعر بالموت كأفراد، أدرك أني لا بد خاضع لأمر الله الذي يرى ويسمع كل شي.
هل حقاً هناك آلاف آخرون مثلي؟ رباه كم هو فظيع ذاك اليقين بنعم.
نحن الفلسطينيين، أصحابَ حقول القمح الشقراء التي لا تنتهي، بتنا نتسول حفنة طحين.
أحلم بحفنة كفاف تقيني برد الحاجة وألم السؤال، وتبعد عن روحي شبح صاحب البيت ووقع خطواته وهو يريد أجرة منزله مني، أنا ذاك الذي لا يملك ثمن الرغيف.
لكني أملك أملاً بالله وحفنة دموع سأبكيها على تعب بنياتي اللواتي عرفن القهر مبكراً.
في طريق الخروج سألني ضابط: إلى أين أنتم ذاهبون؟ لم أعرف ما أجيب، فردد من تلقاء نفسه إلى جهنم أليس كذلك. فأجبته على الفور: لا أنا سأعود! فضحك ونظر إليّ وقال: شو بدك ترجع فحمة يعني؟ وأخذ يضحك أنا فلسطيني كغيري، والفلسطينيون مصابون بلعنة حب الرجوع إنه حنين الجذع إلى عتمة التراب التي تنتج الضوء.
لا بد أني سأعود يوماً ولا بد أني سأسدد ثمن أجرة منزلي، ولا بد أن ابنتي ستبتسم لي دون أكداس من الأسى خلف ملامحها، ولا بد أن قدمي ستشفى، ولا بد أني سأعود يوماً. ليس لدي سوى هذا يبقيني على قيد الحياة. حلم بأن أعود.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=14349