11 February, 2025

“انفجار يأبى النسيان” قصة للكاتب فايز أبو عيد

كان الدّمُ ينفر من جسديهما عندما أحضروهما، كانت صورةُ أخي القتيلِ ماتزال ماثلةً أمامي، والدّمُ الذي يسبح على الأرض، كنت أبكي، كنّا نبكي فوقه، لازلت أذكرُ وجهَ أمّي وهي تصرخ: يمّا!

كان مرعباً ذلك اليوم، فقد ارتجف البيتُ فجأةً على وقْع صوتٍ عنيفٍ حطّم جدارَ الصّمت الذي غلّف المكانَ، لقد بدا هذا الصّوتُ في البدْء قادماً من كلّ الجهات، كما وصفه الكاتب فايز أبو عيد في قصته “انفجار يأبى النسيان” ضمن المشروع المشترك بين مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية وبيت فلسطين للثقافة

انفجار يأبى النسيان

فايز أبو عيد

كانت السّيّدةُ ريما جالسةً، تبحث في كلّ الاتّجاهات، سكتتْ هنيهةً، كنّا ننظر نحوها، أطالتِ السّكوتَ قليلاً، كانت الآذانُ مفتوحةً على وسْعها، وفجأةً يتنحنحُ أحدُ الحاضرين، كأنّه يطلب منها الكلام، وهنا رفعتْ رأسَها، وتوجّهت بنصف همّةٍ ونصفِ أمل إلى الحاضرين، وقالت:

-الانفجار، لتنزلقَ وراءه كلماتٌ أخرى، وتشرع بالحديث قائلةً:

– إنّي لأعجَبُ كيف لحادثةٍ صغيرةٍ أن ترسم مستقبلَ عائلة بأسرها.

وأردفت:

– كان مرعباً ذلك اليوم، فقد ارتجف البيتُ فجأةً على وقْع صوتٍ عنيفٍ حطّم جدارَ الصّمت الذي غلّف المكانَ، لقد بدا هذا الصّوتُ في البدْء قادماً من كلّ الجهات إلا أنّه لم يلبث أن اتّضح مكانُه، لقد انبعجتِ النّوافذُ في البيوت وتناثرت كالشّظايا في المكان، كان الهديرُ عالياً بصورةٍ لا تصدّق حيث خفقتِ القلوبُ دفعةً واحدةً، واحتشدتِ الدّقّاتُ وراء بعضها دون سابق إنذارٍ، واجتاحتني رعشةٌ مفاجئةٌ.

تروي ريما قصّتها التي بدأتْ مع هذا الصّوتِ الذي سيبقى معلّقاً في ذاكرتها إلى الأبد، نسيتُ أن أخبركم أنّ ريما مهندسةٌ معماريّةٌ، تقيم مع زوجها وصغيرها في تركيّة، وكانت من قبلُ تقطن مع عائلتها في حيّ السّحاري في مدينة درعا.

– ألم تعرفوها بعد؟! حسناً سأخبركم، لكن تمهّلوا عليّ قليلاً، قلت تمهّلوا علي قليلاً، أرجوكم انسوا مَن تكون في هذه اللحظة، كلُّ ما أطلبه منكم أن تشاركوها قصّتَها وأحاسيسها فحسب، هل اتّفقنا، تكمل ريما:

– سأحكي لكم قصّتي، وذلك الغضبَ المشلولَ الذي وقف بجانبي إلى يومنا هذا، كانت مدينتي أشبه بعذراءَ تُجلَدُ كلَّ يوم بلا هوادة، بسياطِ أولئك الغرباءِ منذ أن فتحت فمَها تطالب بحقوقها، كانت مسرحاً لرجال التفّت حول رؤوسهم عصائبُ حمراءُ وخضراءُ، مضتْ سبعةُ أشهرٍ منذ قدومهم، لا أعرف إذا كان ذلك سيكون حديثاً مفيداً، ومع ذلك سأقول:

– لقد كانت مدينتي غاضبةً وحزينةً ومطعونةً في وقت واحد، ظلّت ترفضهم سبعةَ أشهرٍ منذ قدومهم، صرختْ بأعلى صوتِها وغاصتْ في الشكوى، وأخيراً استداراتْ للمواجهة.

كان ذلك الانفجارُ بنادي الضبّاط القريبِ من الحيّ الذي كنت أسكنُ فيه مع أهلي، لقد انفجر دفعةً واحدةً غامضاً فتّاكاً، حيث تناثرتْ تلك العصائبُ من حولنا.

لحظة يا ريما، أنت لم تشرحي ما حصل بالضبط، ردّت ريما:

– أليس من المثير حقّاً أن تكون عباراتُنا متنكّرةً، بمثابة إشارة بدْء لكم كي تخمّنوا ما حدَث، وأن تبحثوا بأنفسكم، وتسألوا، لابدّ أن يعضّ أحدكم على شفتيه محدّقاً ودامياً لدى رؤيته أخي وابنِ عمي وذلك الحلّاقِ البائسِ.

أخي لن أنساك

امتلأتِ الغرفةُ فجأةً بنظراتٍ تحملُ تحتها سؤالاً واحداً:

– ماذا حدث لهم؟

وفجأةً بدأ جسدها ينتفض بشدّة، وقد امتقع لونُها، وبصوتٍ خافتٍ:

-أخي … صلاح، ابن عمي عماد، الحلّاق المسكين

كانت قد استعدّت للدّخول بدوّامة من النّواح مثل نهرٍ مُتجدّدٍ

– أعتذر إن كان ذكرهم يُشعرك بالأسى، قال لها الصّحفي

– لا عليك، أخي صلاح كان قد أنهى دراسته الثّانوية، وأبي في هذه اللحظة كان أشدَّنا فرحاً، كان يصيح:

– أخيراً هناك مَن سيدرسُ الطّبّ في بيتنا، الشكر لله.

تكمل ريما:

– أما أمّي فقد فشلت في حبس دموعِها، كانت الزّغاريدُ تملأ المكان، ليس في بيتنا فحسب، بل الحيُّ كلُّه كان يبدو صاخباً، تمّ قبولُ أخي في كلّية الطّبّ بجامعة البعث، فيما دخل بيتنا منذ تلك اللحظة في حركةٍ سريعةٍ تنمُّ عن جدّيته ونشاطه وانشغاله، فيما احتشد الأقاربُ في بيتنا، كانت كلمةُ: عقبالك، تتردّد في المكان دون وعي، فيما طارت كلمةُ: مبروك، مبروك

وأكملت:

– كنت قد بدأتُ أشعر بالغيرةٍ من أخي، ولكنّني لم أكنْ أحملُ ذرّةَ خوفٍ واحدةٍ، فقد كنتُ مدلّلةَ أبي، ومع ذلك فهذه هي مقاييسُ عالمنا.

وفي هذه اللحظة بدتْ من ريما ابتسامةٌ، لا أدري كيف أفلتتْ منها، كانت تبدو شاردةَ الذّهنِ تلمحُ في عينيها دمعةً متوقّفةً، وفجأة أحدهم يخاطبها، انتبهت كأنّها استفاقتْ من حلم جميل:

– أين وصلنا، سألتْ وهي تعتذر

ردّ أحدهم:

– استعداداتُ أخيك صلاحٍ للذّهاب للجامعة، وتجمّع الأقارب.

– آه، نعم، مضت الأيّام، وقرّر أخي الذّهاب مع ابن عمي ماجد، الذي كان في السّنة الثّانية بكلّية الهندسة، كانت أمي قد جهّزت لأخي كل ما يحتاجه من مؤونة، وقبل يوم من سفره، حينما حدث ذلك الانفجارُ بنادي الضباط الذي راح ضحيته الكثير من أصحاب العصائب الخضراء والحمراء، قرّر أخي الذهاب مع ابن عمي للحلّاق، فيما بقينا نحن وبيت عمي في معركةٍ، كنتُ أتمنّى أن أعرض عليكم ما جرى بيننا من كلامٍ وحواراتٍ جميلةٍ، كنّا سعداءَ حقّاً، ولكن قصّتي لا تتّسعُ لذلك.

تكمل ريما وقد انهمرت دموعُها على خدودها وأناملها فجأةً، وهنا اقترب منها زوجها قائلاً:

– هل يمكن أن نتابعَ في وقتٍ لاحقٍ؟

– لا لا لا … قالت، وكنّا نستعجلُ استكمال هذا اللقاء:

– امتلأ الحيُّ بأصوات الرّصاص، وكنتُ في هذه اللحظة مثلَ شيءٍ معلّقٍ في الهواء مثلَ غيمة، وجاء الصّمتُ أطولَ ممّا توقّعنا

وفجأة أصواتٌ تعلو وصرخاتٌ تملأ آذانَنا دون أهالي الحيّ، كان ثمّة شيءٌ يقترب منا، حاولت إبعاده عني، فيما أخذنا نخطو معا نحو الصّمت والباب والنوافذ.

قرأوا في الصّحف في اليوم التالي عن إطلاق الرّصاص على محلّ حلاقة، حيث تمّ قتلُ شابين والحلاق.

– نعم، كان أخي وابن عمي، قالت بحرقةٍ

تتابع، وقد سال فيضٌ غزيرٌ من الدّمع:

– هل عرفتم المجرمين؟

كان الدّمُ ينفر من جسديهما عندما أحضروهما، كانت صورةُ أخي القتيلِ ماتزال ماثلةً أمامي، والدّمُ الذي يسبح على الأرض، كم كان صغيرا وجميلا ووسيما، كنت أبكي، كنّا نبكي فوقه، لازلت أذكرُ وجهَ أمّي وأبي، كم اتّسعت عينا أمّي لآخرهما وهي تصرخ:

– يمّا!

قَتْلٌ بأمر الشيطان

لقد مضت أمي منذ تلك اللحظةِ بنواحٍ ممزِّقٍ لا يفتر أبدا، محاطةً بجاراتها الباكيات، تحت أنظار الناس جميعا، سمعتهم يقولون:

– هكذا بكلّ بساطة، أصدروا حكمَ الإعدامِ، كان ثمة أسئلةٌ تدور في المكان:

– لماذا، لأنّهم لم يشعلوا الشموعَ على قتلى الانفجار، ويعلنوا الحداد ثلاثة أيام، أم لأنهم كانوا سعداء بدخول الجامعة.

لقد انتباتني في تلك اللحظة قشعريرةٌ من الغضب لم أشعرْ بها من قبل، وقلت في نفسي:

– هكذا بكل بساطة قتلوهم.

كان الحزن قد غلف المكان أياما، بكينا وبكينا، ومع ذلك أخذت الأيام تمرُّ بروتينيةٍ، منذ تلك الليلةِ لم أعد أشعر بالدفء، بالشمس القوية، بدا كلُّ شيءٍ بارداً، إلا أن أمي كانت مقلتاها تتوهّجان كنار، ولكن كيف أسترضيها، لقد كان قلبي يتقطّع من حزنها، لم يكن أحدٌ قادرا أن يستوعب ما حدث في تلك الليلة، كانت دموعُ أمي لا تفتر.

مرت أيّامٌ قليلةٌ على مقتل أخي وابن عمي والحلاق، كانت هذه الحادثة قد ملأت أصداؤها أرجاءَ المحافظة قاطبةً، وامتلأت التنسيقيّاتُ بخبر مقتلهم، عرفنا أن ميليشيا أبي عقاب هي التي أعدمتهم، أرادوا أن يعدموا أيّ ابتسامةٍ يومَ الانفجار، فلم يجدوا إلا محلَّ الحلاقةِ ينبضُ بابتسامة، لتنهدمَ فجأةً في مواجهةٍ مباشرةٍ لعراكٍ حقيقيّ بسلاحٍ ناريّ.

تقول ريما:

– عرفنا فيما بعد من خلال الأخبارِ أن القتلةَ كانوا بقيادة رجلٍ يُدعى بأبي عقاب.

أبو عقاب… وشياطينه في بيتنا!

مرّت أيامٌ على تلك الحادثة المشؤومةِ، وإذ بباب بيتنا يدقّ بعنف، كانت حملةَ تفتيش على حيّنا، هذه الحملات المسعورة ستزداد مع الأيّام وتغدو أمرا معتادا، دخلوا علينا كسيل جارف صارخين:

– الهويّات…

وفجأة اصطدمت أعيننا بذلك الشيطانِ، كان له رأسٌ غريبٌ، ووجهٌ غيرُ ودود، وعنقٌ قد انغمستْ في كتفيه، كان وجهُه كافياً أن يشعل فينا كلّ الغضبِ المحشوّ في الصدور، وفي هذه اللحظة لا أذكر سوى خيالٍ خاطفٍ انطلق نحو ذلك الشّيطان، إنها أمي، لقد انهالت عليه ضربا، وهي تصيح:

– قاتل! … جبان!

أمطرته بكلّ الشّتائم، كان بشعا كالقرد، وقد بدا مثلَ كلب حبيس، اندفعت في هجمات انتحاريّة، كنت أشتهي قتله، هذا الحقير، وعندما رأيت انقضاضته على أمي، لم أتشاور مع عقلي في هذه اللحظة، أسرعت وكم كنت أتمنى لو امتلكت سكينا، لم يبق حذر أو احتياط أو حتّى مسافةِ أمان، كم كنت أتمنّى لو تعلّمت كلّ كلمةٍ سفيهةٍ كي أرشقها في وجوههم الشيطانية، رأيتُ أخي هاشماً وقد جحظتْ عيناه وانفجر الغضبُ في دماغه، كان العراكُ على أشدّه، ومن حولي تعالتْ أصواتُ الوحوش، وزمجراتُهم الحيوانيةُ، ضربوا أبي وأمي، ضربوني، لم أصرخْ ولم أبكِ، أخذوا أخي، كانوا يجرجرونه، لقد انفلتوا عليه كجرذان قذرة، وانتهى المشهدُ بغياب أخ آخر لي من جديد .

الكلاب الضّالة في الطرقات

اختفى أخي هاشمٌ، واختفى آخرون مثله فيما بعد، وبات هذا المشهدُ حاضرا في حينا، الرّعبُ والعنف والصمت والغضب، وقبل كلّ شيء وفوقه الخضوعُ، وكان أبو عقاب يشمشم الطرقات في كل لحظة، فقد أخذ ينمو كطحلب أو مثلِ نبتة شيطانية، ومرّت أشهر، وبات الحيُّ محاصرا ومغلقا، لم يعد للحي إلا مدخلٌ واحد حاجز أبي عقاب، كنت عائدةً من الجامعة، وإذ به يوقف السيرفيس الذي يقلّني طالبا الهويات، وقد مضى ينقّب في الوجوه، كان يبتسم ابتسامةً تزيده بشاعة، اقترب منّي ورمقني بعينيه، حقا الكلبُ لا ينسى وأنا لن أنسى، نظر نحوي فرأى الغضبَ في عيوني، لم يكن معي سلاحٌ، قلتُ في داخلي :

– كم أتمنّى أن أصفعه، وأمزّق وجهه بأظافري.

لم أفتحْ فمي بكلمة، فهم الكلب صمتي، ومضى في طريقه، كم كنت أود أن ألقمه حجرا، الحجر أفضل مع الكلب.

بدأ هذا الكلب يزداد شراسة، ولم أعد أهوى العودةَ إلى الحي، كنت أقضي معظم وقتي في الجامعة.

مضت سنتان على مقتل أخي صلاح واعتقال هاشم، كنّا صامتين أمام الكلابِ الذين احتلّوا حينا، لقد استوطنوا حديقة حميدة الطاهر واتخذوها وكرا لإجرامهم، حيث أخذوا يتناسلون هناك.

أمام المصائبِ التي نزلت بأسرتي، فقد ضرب الكلابُ حصارا على حيّنا، الجهاتُ الأربعةُ مسدودةٌ، يزحفون ويتعاركون ويحاولون اقتحام الأبواب، لقد اتّخذ ذلك العقربُ الأسودُ من حديقة حميدة الطاهر التي ضحّت بجسدها لتقتل 50 عنصراً من قوّات الجيش الإسرائيلي، موطئ قدم لإجرامهم، وسجناً مرعباً.

سأعود للقصّة الآن، أعرف أنّي أستطردُ في الشّرح أحيانا، لقد كان أبو عقاب هذا جاهلاً تماما، وقد أصبحت رؤيته أمرا عاديا ومألوفا، لقد اضطررنا أن نمضغه ونعلكه ونبصقه صباحَ مساء،

ريما أتقبلين الزواج

مضت ثلاثُ سنوات، وتخرّجتُ أخيرا، وصار لي عملي، إنه موعدُ زفافي، كنتُ أنظر في المرأة، سمعتُ حركة ورائي، وفجأة لمحتُ أمي ورائي، رأيتها ترمقني بنظراتٍ جفّفت حلقي، كنت رافضةً الزّواج إلا أن أبي أقنعني أن الحياة لابدّ أن تستمرّ.

 أمي منذ زمن لا تقول شيئا، ومع ذلك لم تقلْ لي شيئا ولم أسأل، ربما كانت في زعلها على حقّ، ناجيتها ألا تفارقني، تكلمت من قلبي، ضمّتني بحرارة وقبّلتني، فطوّقتها بذراعي، كنت بحاجة إليها، لوجودها قربي، ومع ذلك، كنت مصرّةً على المضي إلى الأمام، غنّيتُ بصمت، تصميمي على المواجهة حرّك الدّمَ في عروقي، كنت أحلم مثل أيّ امرأة، كان خالد قد تقدّم لخطبتي، وقد استطاع أن يلتقطَ من أعماق قلبي مشاعرَ الحبّ ويخرجها مرة أخرى، كنتُ قد ظننتُ أن هذه المشاعر لم تعد موجودة، لقد انتفض قلبي مرة أخرى، بدأت أسمع نبض قلبي، لقد عاد الدّمُ ينساب في عروقي، وقد تمّ الزواج بأسرع ما يمكن.

مضت ثلاثُ سنوات، ورُزقت بمولودي الأوّلِ صلاح، دعوته باسم أخي الشّهيد، لقد استطاع هذا الكائنُ الصغيرُ أن يبعث الحياة مجدّداً في بيت أهلي، ويذوّب ذلك الجبل من الصمت لتُولد على غير توقّع ابتسامةٌ على شفتيّ أمي.

رحلة إلى ما وراء الحدود

أنا الآن في أمسّ الحاجة لتركيزكم قبل أن أواصل لابد أن تفهموا ما حدث، ما حدث كان فقط أن زوجي طُلب للخدمة الاحتياطيّة،

سأشرح لكم أكثر، كانت الخدمة الاحتياطيّة أشبه ببزّاقة تمتصُّ كلَّ الدّمِ الموجودِ في داخلك، ثم تقذف بك إلى جهنم، دون أن تعلّق لك نعشاً.

– أيتها المسكينةُ يا ريما!

أيُّ حياةٍ تعيسةٍ تنتظرك، قال زوجها في اجتماع العائلة:

– سأذهب إلى تركيّة عن طريق الصحراء.

ومع ذلك لم يوافق أيٌّ منّا على هذا الرأي، فقد ابتلعت الصحراءُ الكثيرين من قبل، بدا جوُّ الغرفة خانقاً مشدودا، فيما بدا المدى غامضاً كبحر من العتمة ، جلست ريما وقد طوت راحتيها فوق حضنها مرتعشةَ القسمات، فيما استسلم الباقون لصمت ثقيل يندف كآبةً، كان عليهم أن يرتّبوا أفكارهم، إلا أنّه لم يكن هناك وقتٌ كافٍ ليلتقطوا أنفاسهم، مرّت بضعةُ أيام روتينيةٍ ومملّةٍ، ولكنّ الخطرَ كان يزداد، فقد كان البحثُ عن المطلوبين يتّجه إليه مباشرة، ويوما بعد يوم بدأ يحسُّ بالسكّين فوق رقبته، ومع ذلك لم يستسلمْ، وفي هذه اللحظة صمتتْ ريما، كانت تنوي أن تتوقّف عن سرد قصٌتها، أخذتْ تشعر أنّها أقحمتنا في مشاكلها وهمومها قائلةً وقد انهارت في بكاءٍ مكتومٍ :

– ما ذنبكم كي تحترقوا بنار أحزاني؟

لكنّها فشلت في ثنيهم عن الاستمرار في المتابعة، كان الفضولُ قد استولى على الجميع، وقد رفضوا إغماضَ أعينهم وإقفالَ آذانهم.

– حسناً، سأكمل ذكرياتِ الماضي، قالت بعد أن مسحتْ دموعَها، كان زوجي يبدو متعباً وضائعاً ومحتاراً، فيما بدا الزمن خصماً، بل وحشاً ينتهز الفرصة كي ينقضّ عليه، وقد حُوصر بضراوةٍ.

كان هنالك صوتٌ في داخله يتردّد، يصرخ:

– ماذا أفعل يا ربي؟

وفي يوم من الأيّام، خرج زوجي لشراء بعض الأغراض إلا أنه لم يعدْ، بدأ القلق يتسرّب إلى داخلي، كان ثمّة وحشٌ يحاول اغتيالي، اتّصلت به كان هاتفه مغلقا، لم أعلم ماذا أفعل؟

حضر والداي، اجتمعتِ العائلة، كنت أبكي بحرقة، كنت أخشى اعتقاله، وفجأة دقّ الباب، دق، دق، وفجأة أخذت أرتعدُ، واجتاحتني رعشةٌ مفاجئةٌ، وعندما سمعتُ:

– ريما، افتحي الباب، أنا،

هنا انبثق الضوء فجأة، وعاد الدّمُ إلى عروقي، أسرعت نحو الباب، كان يبدو مريضا، وقد اصطبغ وجهه بلطعاتِ الشّمس الحارقة.

عرفنا فيما بعد أن ميليشيا حميدة قامت باعتقاله مع مجموعة من الشباب في الشارع، ستسألون لماذا؟

– للسّخرة، نعم لتعبئة أكياس التراب لصنع المتاريس، كي يقشروا البطاطا والخضروات، لغسل الصحون والملابس…. الخ

وتابعت، بعد أن رأت استغرابنا:

– كنا عالقين في مستنقع الميليشيات.

بدأ زوجها منذ تلك الحادثة يقضي أيامه في البيت مع صغيره في انتظار معجزةٍ تنبع من بين قدميه، فيما كانت ريما تمضي إلى عملها، وكان أبو عقاب يقوم بعمليات التفتيش، كانت ريما تخشى أن يتمَّ اعتقالُ زوجها، لذلك كان لابدّ من الانتقال من الحي، أو السّفر بسرعة.

 وأخيراً تمّ الاتّفاقُ مع أحد السّماسرة على تهريب زوجها من خلال سيارة أمنيّة، وفعلاً تجهّزت ريما وزوجها للسّفر، وجاء هذا اليوم، وفي هذه اللحظة بدت ريما كوردةٍ ذابلةٍ قالت:

– تمزّقت أمي حزناً ونحن نغادرها، كانت تنظر إليّ وإلى طفلي، ونحن نركب السيارة، أشحْتُ بنظراتي هاربا منها، ولكنّ نظراتِها ظلّت تطاردني، لم أستطعْ في هذه اللحظة إلا أن أطلق العنان لدموعي، فيما تحركت السّيارةُ وانطلقت، جلس زوجي بجانب السّائق فيما جلسْتُ مع طفلي من الخلف، كان زوجي مرتبكاً، كنتُ أتوقّع أن يُصابَ بالرّعب، لقد عشتُ هذه التجربة من قبل، قضينا قرابة الساعة ونحن صامتين، فيما بدا السّائق حادَّ الطّباع، رمى عقب سيكارته من نافذة السّيّارة، ثم أشعل سيكارةً ولاذ بالصّمت، كنا متكوّمين على أنفسنا، كان الخوف في كلّ مكان من أجسامنا، الساعة الثانية بعد الظهر،  وقد انطلقنا في سيارة عسكريّة، كان الطريقُ متكدّساً بالجنود، لا نكاد نقطع مسافةً قصيرةً من دون التحقّق من هويّتنا، ومع ذلك لم تكن هذه الحواجزُ تشغل بالنا، بقدر تلك الحواجز التي تقوم بضرب الفيش لنا، ستُّ ساعات مضت، وأنا أبتهل إلى الله بالدّعاء، وصلنا حلب، وقد ارتاحت نفسياتنا، وأخذنا نستعدُّ للدّخول إلى إدلب، كنّا مضطرّين للانتظار، لم يكنِ الأمرُ بهذه السهولة، فالمحاولاتُ لا تنجح كلُّها دائماً، انتظرنا وطال انتظارنا، وأخيرا تجاوزنا كلَّ العقبات، واستقرَّ بنا الحال في تركية .

كي لا نخسر ذاكرتنا

عاشت ريما مع زوجها وطفلها في ولاية غازي عينتاب، في شقّة بسيطة، كانت البرودةُ ترشح من الجدران، كما كانت تشيعُ العفونةُ في فضاء الغرفة، ومع ذلك كانت مسربلةً بالتصميم على المواجهة، تعيش حياةً روتينيةً كالدورةِ الدّمويةِ، لم تحملْ في طياتِها أي مفاجئاتٍ دمويةٍ كالتي رأتها في سورية، حكت:

– كنت أدرّس الرياضياتِ في إحدى المعاهد، فيما عاش زوجي معاناةً في إيجاد عمل، ينتظر فرصته، كابتاً معاناته، أنوفاً، كنت أسمع صدى صوتي يتردّد بسهولة في أرجاء البيت.

وهنا لابدّ من الاعتراف:

– كانت ريما من تلك القلّة التي رفضت أن تدفنَ رأسها في الرمل، رافضةً أن تسدّ طاقة الريح وتستريح، لقد تخرّجت من مدرسة القهر والألم، وحان الوقت لتقتحم جحيم الثّرثرة، نظرتْ إلينا مباشرةً، حدّثتنا، أنا أشرح لك:

– إنه التّحدي

والنتيجة:

– لا شيء، لا تستغربْ كلامي، لن يحصلَ شيء في الوقت الحاضر، ومع كلّ هذه العتمةِ وهذا الإظلام لابدّ في يوم ما أن يومض برقٌ خاطفٌ، متقطّعٌ، يبرز نورا، وهذه هي الحكمةُ الحياتيةُ، أولاً وأخيراً.

https://palfcul.org/wp-admin/post.php?post=15277&action=edit&lang=ar رابط مختصر  

Font Resize