نضال الخليل
في تلك اللحظة الحرجة التي تتلاشى فيها حدود المساء بين الحزن والأمل حين ترتمي الشمس على شرفات بيوتنا المنهوشة من قسوة الزمن يستيقظ الفلسطينيون فجر 15 أيار 2025 على وقع ذكرى النكبة السابعة والسبعين ليست الذكرى هذه مجرد رسم في دفتر الماضي، بل قصاصة متحركة تنسج تفاصيل يومياتهم من صدى بكاء طفلٍ يستفيق على هدير الطائرات إلى انحناءات امرأةٍ تبحث في رماد الصخور عن قطرة ماء تُطفئ ظمأ أبنائها ثم همسات كبارٍ ما زالت أصواتهم تتراءى بين أروقة البيوت المتهدمة.
في قلب مخيّم النصيرات يبوح وليد أبو صلاح بمرارةٍ تجعل كل تفصيلة من تربة الأرض تهمسه بالخسارة:
“كيف لتسعيرة خمس قذائف أن تمحو ثلثي حكايتك؟”
يقول وكأن الكلمات تنهار أمام صخب الخرسانة المتهالكة يعيش في غزة أكثر من 2.4 مليون إنسانٍ تحت حصارٍ يشبه السمّ البطيء يترصّد خلايا أجسادهم عطشٌ مُلحٌّ للماء النظيف وجوعٌ لا يرويه سوى خبزٌ يبقى فاترًا أمام حنق الروح في غياب العيش الكريم.
المفتاح الصدئ بين يدي سلوى الزعبي يلمع بلون الحنين قطعة أثرية نقلتها من قرية لم يعد لها وجود منذ 1948 تحتل زاوية غرفتها بوصفها ذكرى بأن أي بيت اليوم هو فصل مؤقت من روايةٍ نُهشت فصولها الأولى هنا بين شوارع رام الله ونابلس وجنين يتصارع الناس يوميًا على معنى حق العودة ويُختزل تاريخ الأرض إلى أرقامٍ في دفاتر الأمم المتحدة بينما القلوب تطالب بالسندويش السريع والمأوى المؤقت.
لم يكن تهجير العام 1948 مجرد فصل تاريخي بل بداية لمسرحية نزوحٍ لا تعرف الوقوف ففي الأشهر الأخيرة سجّل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية نزوح أكثر من أربعين ألف شخصٍ في الضفة وحدها على وقع مصادرات وهدم بذرائع “الأمن”.
تبدو المشاهد كأنها خشبة مسرحٍ صامتٍ تنهار فوقها أحلام الناس تحت أكوام الأنقاض وتختزل وجوههم إلى أرقامٍ تُضاف إلى سجلات الإحصاء.
منذ 1949 شكّلت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين شريان حياةٍ يروّ أجيالًا متعاقبة بالتعليم والرعاية والإغاثة اليوم يوشك هذا الشريان على الانقطاع في مخيمات لبنان وسوريا والأردن أغلقت مدارسٌ جزئيًا لعجز التمويل وفي غزة يئنّ المستشفى الميداني تحت وطأة الإصابات المستعصية وعجز تأمين الأدوية.
“تقول معلمةٌ ربّت أجيالًا من الأطفال: “أخشى أن ينسى تلاميذي طعم الدفتر والكتاب قبل أن ينساهم معنى الوطن”
في قرىٍ اختفت من خرائط العالم يتجلّى الفقد بمرارةٍ حين يحكي عبد الله المصري عن سكنه في مدرسةٍ مهجورةٍ بعدما هدم منزله وحكاية أمٍّ من غزة فقدت خمسة من أبنائها في غارةٍ واحدة تختزل في صراخها المتقطع عددًا إضافيًا في سجل الضحايا هذه القصص ليست أرقامًا في تقريرٍ جاف بل نفوسٌ تتنفس الألم تحمل ذاكرةً لا تستطيع الرمال أن تمحوها.
في مواجهة هذا الألم يولد اختلافٌ يصير إبداعًا احتجاجاتٌ امتدت في أصقاع العالم فرقٌ فنيةٌ تزرع الزيتون على لوحاتها وأصواتٌ تنشد في قاعات جامعاتٍ بعيدًا عن ضجيج الرصاص وحملاتٌ قانونيةٌ تطالب بتحقيق دولي في جرائم التهجير هذه السيمفونية الجماعية تذكرنا أن روح المقاومة لا تنحني أمام البندقية ولا أمام الزمن.
إذا كانت الذاكرة تدور في حلقةٍ ما تُفكّ أواصرها فالعدالة أيضًا جديرةٌ بأن تكون فاعلةً في مسارٍ لا يكتفي بالشعارات لا يكفي استعادة السرد التاريخي بل يتعين تحويل الحقوق المعلنة إلى قراراتٍ دوليةٍ ملزمةٍ تُعيد للفلسطينيين حقهم في الحياة والهوية والمكان.
حين يلتقي صدى الذاكرة بصوت العدالة تتأجج إمكانيّة فجرٍ جديد لا يحتفل بذكرىٍ مجرّدة بل ينبض بفعلٍ ينهِي رحلة النكبة الطويلة.
في تلك الليلة التي تحتضن فيها نجوم السماء أحزان الأرض يظل شوق العودة وقود القلوب تبقى الأحلام معلّقةً فوق المفتاح الصدئ تنتظر أن تنتقل من ذاكرةٍ رمادية إلى واقعٍ يفتّش عن إعادة بناء ما دمّر واستعادة بساتين الزيتون وحقول القمح وملء البيوت بضحكات الفرح بدل هدير القنابل وإذا تأخر الفعل فستبقى النكبة روايةً تُروى بلا انتهاء تطرح أسئلةً لا تعرف الكلل عن الأرض والإنسان والضمير الذي يرفض أن يغفو قبل استعادة الحقوق.




