بديعة زيدان
“لقد استطاع محمود درويش أن يجعل الفلسطيني تحديداً منتصراً على جرحه، حين أصبح شعره ضرباً من الانتصار على مأساة فقد الوطن، ونوعاً من مواصلة الحياة وتحدّي مآسيها، ولذلك لا غرابة في أن أصبح شعر درويش أو كاد معادلاً لأسطورة البحث والخلاص عند الفلسطينيين، فالشعوب في نزاعاتها مع المحتلين تبحث عن الصمود إما بالعودة إلى التمسك بتراثها ومنجزاتها ورموزها التاريخية والدينية، أو بصناعة الأبطال الأسطوريّين، سواء أكانوا أبطال معارك أو أبطال ثقافة، لأن الثقافة هي الفاعلية الوجدانية والفكرية في الدفاع عن هوية الشعب وحرّيته، على غرار ما يفعل بنو يهوذا في محاولات توطيد وجودهم في فلسطين، عبر مزاعم ثقافية وتاريخية ودينية مزوّرة”.
كان هذا أحد استخلاصات الناقد والشاعر الأردني راشد عيسى في كتابه “الباشق الذهبي”، الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، وهو كما وصفه صاحبه عبارة عن “نوافذ على سماء محمود درويش”.
وذهب عيسى في تصدير الكتاب إلى أن “شعر درويش دفاع ثقافي مضاد، استطاع بفعالية جمالياته الإبداعية أن ينال كل هذا الاهتمام والإعجاب وربما الأسطرة”، لافتاً إلى “أن الذي أسطر محمود درويش ليسوا الفلسطينيين وحدهم، لحاجتهم إلى رمز ثقافي عظيم يبرز قضيتهم العادلة أمام العالم، وإنما عشاق الحرية الجمالية، والحداثة الإبداعية من الباحثين والنقاد والدارسين أيضاً”.
وعمد كتاب “الباشق الذهبي” إلى كشف الروافع والسلالم الجمالية والشخصية التي ساندت محمود درويش في بلوغ أعلى القمم الإبداعية في الشعر، وفي تحقيق الأوج من السمعة الزكيّة والنجومية الشاسعة، على حد تعبير عيسى، الذي جاء كتابه هذا في فصلين، قدّم في الأول منه تمهيداً أشبه بتعليق وثائقي تحت عنوان “صقر الشعر العربي المعاصر”، ثم أتبعه، وتحت عنوان “أسانيد الشهرة الشعرية” للحديث عن “مجرّات نجم درويش، والخصوصيّات الفنيّة في شعره”، أتبعها بـ”فيوض وصفية لما رآه في شخصية درويش من مظاهر الكاريزما الخاصة، تلك التي دعمت خصوصيته الفنية، وأسهمت في تعزيز شهرته”، واستند في هذا الفصل إلى ما وصفه بتشوّقاته المعرفية “التي لعبت دور آلة التصوير في التقاط المشاهد الرئيسة بإيجاز وكثافة”.
أما الفصل الثاني فخصّصه عيسى لدراستين تطبيقيّتين، فتناول في الأولى “العبقرية الغنائية” عند درويش “عبر تحوّلات متفاعلن في شعره”، في حين كانت الثانية عن “فعالية اللغة البلاغية” عنده، من خلال البحث في “أسلوب النداء في ديوان أوراق الزيتون”، معتمداً في هاتين الدراستين، كما أشار، على “المنهج الجمالي والأسلوبي، مُظهراً هذه البراعة الفريدة”، التي يرى بثقة “أنها أهمّ أسباب التماع درويش، من حيث هو مُبدع استثنائي للطرز المعمارية في القصيدة المُعاصرة”.
ووصف عيسى شعر درويش بـ”الصقر الذي ابتنى عشّه في السماء، فيما كانت عينه تتحول في سنابل الأرض وزيتونها وحجارتها وأعشابها، لتعيد لهذه الكائنات اعتبارها، بعد أن داستها أقدام اللصوص العابرين وسُرّاق التاريخ”، وأن هذا “الصقر” الشعري “لم يكن يهبط إلى الأرض تباعاً ليخطف طعامه، بل ليرد الأفعى عن التهام بيض الحجل، ويحول دون أن تقرض الفئران حبال المحبة بين القرويّين، ودون أن تتسلل الثعالب إلى ديكة البساتين والمزارع”، وأنه “لم يكن قط فلسطيني السماء، وإن ولد وتربّى بين طقوسها الحرجة، وإنما كان كونيّ الآفاق يصلّي في حجرات الألم الإنساني، ويناضل ضد القبح والاستلاب والعبودية”، فأخلص بشهادته الشعرية، ولذلك “عُدّ من أشهر عشرة شعراء في العالم، إذ استطاع بخصوصية ألمه الشعري أن يعمّم جماليات القصيدة على الحرّاث المقدسي والراعي العربي، والهندي مُرقص الأفاعي، والإفريقي الذي يصنع يومياً إلهاً جديداً من شجرة المارغروف، والغجري الذي يبيع فراء الأرانب لصانعي قفازات النساء، والقروي الإسباني الذي يتمايل على أنغام السامبا، وراعي البقر في جبال روكي الأميركية”.
وأشار عيسى إلى أن “من بين من نقدوا شعر درويش ومواقفه ناجي العلي، وأحمد حسين الذي كان شديد الحماسة في نقده، غير أن تلك الانتقادات على جدارتها لم تطفئ برقاً ما في سماء درويش مثلما لم يطفئ اتهام المتنبي بالسرقة من أرسطو وعنترة نجومية المتنبي، ما يؤكد أن الفعالية الجمالية العظيمة تغفر زلات الشاعر العظيم، وهكذا قدّر للمحيط الدرويشي أن يبتلع الأنهار من حوله، ومن هنا تصح مقولة إن لنا من الشاعر فنّه وليس أيديولوجيته”.
وخلص عيسى في كتابه “الباشق الذهبي” إلى أن “شعر درويش كان ملاذاً للهاربين من غموض قصائد النثر التجريبية التي فشلت في توثيق مشروعها، ولم تنل شرعيتها في الذائقة”، كما “كان شعره طرازاً معماريّاً تجمعت فيه منابت الأصالة والحداثة والمعاصرة، بذكاء حافظ على عروبة إيقاع الشعر وعلى مجازه العالي ولغته الرشيقة المتجددة، وصانت منابعه الشعرية العربية، وتوسّعت في تجديد أساليبه وأخيلته ورؤاه”.
وبعد أن تحدث عيسى عن استقلالية درويش ووسامته وجماليات الإلقاء لديه، وبيئته الحاضنة، وحضوره الإعلامي، وإبداعه النثري كعوامل في صياغة كاريزما من نوع طاغٍ تميّز بها، خلص، أيضاً، إلى أن “درويش حائك شعري ماكر، يتقن فن البنْس والدرْز والحبْك والتطريز والرفأ والرثي، وخياطة المعنى، وإدارة الزّر جيداً في عروة الحرف، ولذلك يجيء ثوب قصيدته قرويّاً وبدويّاً ومدنيّاً في وقت واحد، فهو يحرج أزياء القصيدة النمطية ويثير البلبلة في اللغة النائمة الساهية الغافلة البليدة”.
هذا، وختم عيسى كتابه، ما بعد تحليلٍ وافٍ تضمّنه الفصلان، بنص حمل عنوان “رسالة إلى محمود درويش”، جاء في المقطع الختامي منه:
“محمود قبرك غيمةٌ مدّت شراشفها
على صدر الأفق
ستظل ريحُ الشعر شاهدة عليكَ
لتهطلكْ
ويفزّ عشب القدس من أحزانه ليجّللك
محمود ما كان اللقاءُ لنفترقْ
للجرح ربّ
للقدسِ ربّ
ولك الخلود، لك الطريق إلى فلسطين السماءْ
ولنا على الموتِ العتبْ”.
المصدر: الأيام
الرابط المختصر||https://palfcul.org/?p=4351