قصة “أم الخير” للكاتب د. *عدنان جابر*، التي تروي قصة امرأة استثنائية بأسلوب إنساني مؤثر، تأتي ضمن سلسلة النصوص النثرية “حروف اللجوء” التي أطلقتها مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية وبيت فلسطين للثقافة.
أم الخير
هي اسمٌ على مسمى. رغم أن الناس يعرفونها بأنها “الفلسطينية أم سميح” من مخيم اليرموك وأصلها من يافا، إلا أن لقب “أم الخير” التصق بها بعد امتداد نشاطها من مخيم اليرموك إلى الغوطة الشرقية بريف دمشق، وغدت نشاطاتها وأفعالها ومبادراتها تنشر الخير أينما حلت وتوجهت.
منذ بداية الثورة السورية مثلت المرأة الفلسطينية فاتن “أم سميح” نموذج الإنسانة المتعلمة المشتبكة مع قضايا المجتمع والنضال، كانت حاصلة على إجازة في اللغة الإنجليزية وعملت قبل الثورة في الترجمة. لكن أصالة معدنها وانجذابها إلى مساعدة الناس جعل تفكيرها ينتقل من الاهتمام الشخصي بحياتها إلى الإطار المجتمعي الإنساني وإعطاء معنى للحياة.
غطى نعت “أم الخير” على اسم “أم سميح”، صار أكبر من الغوطة، وأكبر من صفة “الفلسطينية”، بعد أن صارت هذه المرأة القوية تهرع لمساعدة الفقراء والمحتاجين والمنكوبين المكتوين بنيران الحرب والصراع.
جسدت أم الخير في الواقع والممارسة مقولة “واحد واحد فلسطيني سوري واحد”، مثلت أنموذج المرأة المعطاء، والمرأة الشجاعة المقدامة، التي تتحدى الخطر، فمن بين الدمار وتحت هول القنص والقصف تصل إلى من يحتاج إلى المساعدة والإنقاذ.
كانت تذهب إلى المناطق المقصودة مشياً على الأقدام، وفي الأماكن الضيقة الوعرة والخطرة التي يطالها القصف ويلحق بها الدمار كانت تقتحم الأهوال. كانت تشعر بالخوف الطبيعي مثل أي إنسان، لكن كان يغمرها الفرح ورضا الضمير حين ترى أنها أنجزت مهمتها النبيلة وساعدت من هم بحاجة للمساعدة.
للمسافات البعيدة، كانت تلجأ إلى سيارة “السوزوكي” التي تقودها بنفسها، فكان هذا الأمر مثار إعجاب الصغار والكبار بها. حين كانت تفتح باب السيارة لتصعد إليها كانت تحاول ألا تتعثر بثوبها الطويل.
لم يغب عن عقلها وهي تقود السيارة ذلك الحلم القديم الذي راودها منذ الطفولة، أن تمتطي الحصان، وأن تتمتع بمهارة الفرسان، وأن تكون مثل النساء المشهورات في التاريخ العربي الإسلامي اللواتي ضرب بهن المثل في البسالة والجهاد والنخوة.
أجل، من قال إن النخوة والبطولة حكراً على الرجال!
وهي تقود سيارة السوزوكي والحصى يتطاير من تحت العجلات أو ترتطم بالحجارة بسبب وعورة الطريق، كانت أم الخير تشاهد في الجوار سيارات فارهة فخمة لأناس من علية القوم، أو لأشخاص أغنياء أو صاروا أثرياء بين عشية وضحاها ممن ينطبق عليهم القول “مصائب قوم عند قوم فوائد”، لكنها كانت ترى أنه لا يجمعها جامع بهذا الصنف من البشر، وأن عالمها غير عالمهم.
في كل مرة كانت تذهب في مشوار بعيد، كانت تعقد المقارنة بين السوزوكي والحصان:
أليس الحصان أسرع؟ لو كان عندي حصان ألا أستطيع الوصول بسهولة إلى المناطق المقصودة، وأتلافي المطبات والمناطق الوعرة؟ أليس بالحصان أستطيع الاستغناء عن البنزين وتعبئته من جديد وهي مشكلة عويصة في ظروف الحرب والحصار؟
لكنها سرعان ما تعود بعقلها إلى واقعها وتقتنع أن الناس في الظروف العصيبة ينبغي أن يتكيفوا قدر المستطاع مع الظروف ويتمتعوا بتفكير عملي.
مع انطلاق الثورة السورية شاركت أم سميح في النشاطات السلمية وخرجت للاعتصامات والمظاهرات تنديداً بالمجازر التي يتعرض لها إخوانها في سوريا، الأمر الذي عرّضها للاعتقال والتعذيب.
كانت حاضرة في الاعتصام أمام وزارة الداخلية قرب المرجة، تنديداً واستنكاراً للمجاز التي ارتكبها جيش النظام، مجازر غالبيّة ضحاياها من الأطفال، وتعرضت للشتائم والإهانات من عناصر الأمن السوري. وكان في ذلك الاعتصام أيضاً الأستاذ الجامعي المفكر السوري الحر الطيب تيزيني.
إحدى الناشطات سألت أم سميح لماذا يكيلون لك كلّ هذه الشتائم؟! ، أجابتها: لأنني فلسطينية وزوجي سوري، كنا نحمل شموعا فاعتقلوني مدة ثمانية أيام.
طال بطش النظام كافة مظاهر الاحتجاج السلمي في درعا ودمشق وداريا والغوطة والجديدة وحمص وحلب وكافة أنحاء سوريا، فالنظام الأسدي الاستبدادي لم يعتد المعارضة الجدية ولا يقبل كلمة “لا” ويعتبر ذلك كفراً وعصياناً.
في ذلك الوقت شاع اسم “غياث مطر” من داريا، شاب مهذب راقٍ، أراد أن يقوم بمبادرة سلمية حضارية فقدم الماء والورد للجنود السوريين وكانت مكافأته أن اعتقلته أجهزة المخابرات وتم تعذيبه حتى الموت، وعاد إلى أهله جثة هامدة.
وهكذا، حين شاركت أم سميح بنشاط سلمي وهو حمل الشموع تم اعتقالها، فنظام الاستبداد، نظام الظلم والظلام لا يفهم لغة الشموع.
خلال الفترة التي قضتها أم سميح في المعتقل مع الناشطات تعرضت لجولات من التحقيق، وفي كل مرة ترجع من التحقيق تكون مرعوبة ومصفرة الوجه، وتقول لأنها فلسطينية وزوجها سوري يوجهون لها شتائم قاسية ويهددونها باعتقال زوجها. وأكثر ما كانت تخشاه هو أن يعتقلوا ابنها طالب الطب أو اعتقال ابنتها الطالبة في الثانوية.
اعتقلت أجهزة الأمن ولدها سميح قبل تخرجه بشهور لأنه ساهم في معالجة الجرحى وتأمين الدواء والعمل في المشافي الميدانية وإسعاف جرحى المظاهرات الذي أصيبوا على أيدي عناصر الأمن والشبحية والمجموعات الموالية للنظام.
لم تفتر همة أم سميح في خدمة الفقراء والمحتاجين وإعانتهم والتخفيف من معاناة المحاصرين، إلى أن حاك أحدهم خديعة أوصلتها للمعتقل، حيث اتصل أحدهم بها مدعيا أنه حصل على رقمها من شخص معين طالباً مساعدتها لأسرته التي باتت تنام في العراء.
كان الرد الطبيعي من أم الفقراء والمحتاجين: “سأعطيك مبلغاً تأوي عائلتك وتستأجر بيتاً”. وقعت أم سميح في الفخ المنصوب لها، ففي المكان المحدد للقاء كانت سيارة تابعة للأمن السوري بانتظارها، وتم اقتيادها إلى أحد الفروع الأمنية السورية وتنقلت منه إلى فروع أمنية عدة لمدة شهرين.
تعرضت أم سميح خلال فترة اعتقالها للتعذيب والتجويع والتهديد والوعيد، إلى أن خرجت من تلك المحنة مشتتة القوى ومنهكة من شر ما لاقته.
بعد مدة من الزمن تماثلت أم سميح للشفاء، ومع خوفها من الاعتقال كل لحظة وألمها المتواصل لحال المحاصرين والأطفال انتقلت إلى الغوطة الشرقية بريف دمشق لتحمل همهم وتخفف من معاناتهم.
على إثر موت عدد من المحاصرين بسبب المجاعة ونقص الرعاية الصحية اتفقت أم سميح مع إحدى صديقاتها من مدينة السويداء كانت معتقلة معها للقيام بمشروع خيري لمساعدة وإغاثة الفقراء والمحاصرين.
قام هذا المشروع بتقديم الطعام لقرابة 250 عائلة من أهالي حرستا. كانت غالبية التبرعات تأتي من أهالي مدينة السويداء ومن المغتربين، وأطلق الأهالي على المطبخ “مطبخ أحرار السويداء”.
حرص القائمون على هذا المشروع الخيري على أن يتكون الطعام من المواد الرخيصة التي يمكن تأمينها بسهولة نسبية كالبقول والبرغل والرز، حتى يتمكنوا من تغطية احتياجات أكبر عدد من السكان.
لم يعد الأمر مقتصراً على منطقة حرستا فوصلت يد الخير إلى عدة بلدات بالغوطة الشرقية، من زبدين، ودير العصافير، وبيت نايم، ومرج السلطان، وغيرها.
كان أهالي المناطق يتحدثون عن نشاط أم سميح وإصرارها على مواصلة العمل في ظل الخطر والظروف القاسية، وكانوا يلهجون بعبارات الشكر والدعاء لها إذ كانت تقطع الغوطة الشرقية يومياً طولاً وعرضاً، لتصل أماكن لا يعرفها كثيرون، لتوصل للناس الطعام والشراب.
مع زيادة تبرعات أهل الخير من المواطنين والمغتربين وتوسع نطاق الاحتياجات تم إنشاء مؤسسة حملت اسم أحد النشطاء الشهداء: “مؤسسة مرشد أبو مدلل”.
سعت المؤسسة للاكتفاء الذاتي، تم اقتناء عدد من رؤوس الماعز، وإقامة مزرعة صغيرة للدواجن للاستفادة من اللحم والبيض، كذلك تمت زراعة قطعة من الأرض لاستخدام محاصيلها في الطبخ، وافتتحت المؤسسة محلاً للمنظفات، كما افتتحت قاعة للمحاضرات والنشاطات الثقافية.
المؤسسة التي بدأت بجهود بعض النساء المعتقلات سابقاً وفي مقدمتهن ام سميح باتت توزع سلالاً غذائية، وطعاماً مطبوخاً، وحليب أطفال، والدواء، وخبزاً، ولوازم منزلية، وقامت بكفالة أيتام (أكثر من 160 كفالة)، إضافة إلى توزيع الملابس والبطانيات، والحلوى والألعاب والقيام بحفلات ترفيهية للأطفال، ومساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتسهيل وصول المياه…
عملت أم سميح مع كادر معظمه من الرجال، لكنه كسبت المحبة والاحترام، وصاروا ينادونها بـ “خالتي” أو “خيتا”..
لم تكن أم سميح المرأة الوحيدة بين الفلسطينيين والسوريين التي كانت تتمتع بالشجاعة والعطاء والمبادرة، لكنها من الرائدات اللواتي دخلن قلوب الناس وذاكرتهم.
https://palfcul.org/?p=13317رابط مختصر