24 March, 2025

وَرْدَة كَنْعَان – بقلم موزة المعمرية

1

“منذ أزمنة عديدة وحلم كل فلسطيني أن يحيا حياته كما يحيا باقي الشعوب في أوطانهم مُستقلون مُنعمون بخيرات الوطن في ظل أمانه, واستقراره, وعطاءه”.

غُرفة مُظلمة, ضوء مُسلط على فتاة صغيرة بعمر عشر سنوات اسمها “وردة”, ترتدي رداء بالية أبيض, هي مُنكمشة على نفسها في حُزن وانكسار تامان وفجأة؛ تُضيء الغرفة بنور يدخل عبر النوافذ الزجاجية على جانبيها, ترفع الفتاة رأسها, إشراقة سعادة ترتسم على ملامح وجهها الملائكي بعد ملامح الحُزن, تنهض لترقص رقصة البالية بكل نعومتها وفجأة؛ تقف مذعورة في حالة صدمة تامة, يخفت النور الساطع رويداً لينطفئ, تسقط الفتاة على الأرضية فاقدة لوعيها الحَي, علم فلسطين كبير يطير في أرجاء الغرفة ليسقط عليها مُغطياً إياها ككفن لها, يظل الوضع على ما هو عليه ثم يعود الضوء يسطع من جديد من كل النوافذ, ستائر بيضاء تُسدل على النوافذ تُطايرها الرياح الهادئة, تقف الفتاة بكل عزتها وشموخها, ابتسامة عريضة ترتسم على شفتيها الجميلتين, هي الآن مُمسكة بسارية علم فلسطين, تأخذ السارية وتلوح بعلم فلسطين يميناً يساراً في فرح وسرور تامان.

“فلسطين بخير وستظل كذلك وسيظل علمها شامخاً مُرفرفاً عالياً دوماً”.  

وردة واقفة على الجبل تنظر لفلسطين ومبَانيها من هناك من ذاك العُلو العالي حيث تقول في اختلاجات نفسها: “كم وددتُ من أن أُولد في وطن يلفُّه السلام والأمان كما ينعم باقي الأطفال بأوطانهم, هم ليسوا مثلي, أنا وُلدتُ على صوت الرصاص, وعلى أصوات دكَّ الدبَّابَات على الأرض, هي تهز الأرض عند مرورها عليها, كم أكره الدبَّابَات, بل أكره جميع أنواع الأسلحة, تباً لكل من صنعها, وتباً لكل من روَّج لها, وتباً لكل من استخدمها ولازال يستخدمها, وذاك الجدار العازِل كما يسمونه هم, ولكني أُسميه بجدارِ جهنم, فقد عزلونا عن أراضينا, ومزارعنا, ومنازلنا, لم يكن يحق لهم فعل ذلك, ولكنهم فعلوا.

2

تمشي على طريق تُرابي قاصدة الوصول لمنزلهم المُتواضع وهي تتحدث باختلاجات نفسيه قائلة: 

“قالت لي أمي يوماً بأنها ولدتني وهي تستمع لصوت إطلاق الرصاص في الحارة, كان حينها جند الاحتلال يحاولون اللحاق بشاب وقد فعلوا وقتلوه, قُتِل الشاب وولدتُ أنا, سبحان الله تموت حياة لتولد حياة أخرى, ولكن .. متى ستأتي ولادة وطني الجديد؟, فقد سئمت من الحياة في هذا الوطن الذي أراه يُحتضر كل يوم”.

تدخل للمنزل المتواضع جداً وتغلق الباب, تدخل للمطبخ وتغسل يديها ثم تبدأ بتقطيع السلطة وسط غضب والدتها منها.

الأم مُوبخة ابنتها قائلة: “تأخرتِ كثيراً اليوم في الخارج, لن أسمح لكِ بالخروج من المنزل مرةً أخرى, أنتِ مُعاقبه”.

وردة في نفسها تقول: “أنا مُعاقبة دوماً في هذا الوطن يا أمَّاه”.

جلست حول والدتها على الأرض ليتناولون طعام الغداء المُتواضع جداً, أخذت وردة تنظر لوالدتها التي تقوم بإطعام جدتها الكبيرة في السن.

“يا الله أرجوك لا تجعلني أعش لمثل عمر جدتي الكبير, لن أطيق نفسي وحياتي إن وصلتُ لمثل عمرها مُطلقاً”. 

أخذت تنظر للجميع وهي تأكل, لوالدتها التي تُطعم جدتها, لوالدها, لجدها الحزين, باب المنزل مفتوح والجد العجوز يجلس على عتبة الباب, تنظره وهو يجلس على عتبة باب المنزل مُمسكاً بعصاه التي يتعكز عليها بيده اليمنى, اقتربت منه وجلست بجواره

وردة: “لم أنت حزين لهذه الدرجة يا جدي؟”.

الجد: “وكيف لا أكون حزيناً في وطن لا أعرف ما سيحدث لي فيه في أيامي المُقبلة, بل لا أعلم متى سيُرحِّلُوننا عن منزلنا, أو يهدموه فوق رؤوسنا”.

يمسح الجد دموعه بكُمْ قميصه.

3

استلقت الفتاة الصغيرة على سريرها في غرفتها, هي لم تنم بعد, هي تنظر سقف غرفتها وتفكر.

“كم أحلم بأن أنعم بما ينعم به أطفال الأوطان الأخرى, يلعبون, يُقهقهون, يتجولون بحُرية وأمان وسلام في أوطانهم, أوطانهم لهم لا لغيرهم, أوطانهم لهم لا لغيرهم”.

تسمع صوت إطلاق رصاص فتضع يديها على أذنيها وتنكمش على نفسها, تغط بعدها في نومها العميق لترى رؤية.

“الرؤية”

ترى نفسها ترتدي فستاناً أبيض اللون فضفاض من الشيفون, هي تقف في طبيعة غنَّاء جميلة في أمان وسلام تامان, الهواء العليل يلفح وجنتيها المُتوردتين فتبتسم, شعرها تُطايره الرياح الخفيفة, تفرد يديها وتدور في المكان بسعادة تامة ثم تتوقف وهي تنظر بخوف شديد لشيطان بشع يرتدي اللون الأسود, تبتعد بخطواتها للوراء فيقترب هو منها أكثر ليفتح لها يده اليمنى حيث ترى بعض السكاكر يُقدمها لها, تهز برأسها نفياً وهي تبتعد عنه في خوف فيغضب الشيطان, يرمي بالسكاكر على الأرض ثم يُمد يده اليمنى باتجاهها فتُغطي بيديها على وجهها تتحاشى يده, يتلطخ فستانها الأبيض بلون الدم.

تنهض من نومها فزعة إثر رؤيتها لذاك المنام المُفزِع, تتلفت يميناً يساراً ثم تنزل من على السرير لتتجه للنافذة الخشبية تفتحها وتأخذ باستنشاق الهواء.

تخرج من المنزل وهي تحمل حقيبة مدرستها على ظهرها, تمشي على قدميها قاصدة المدرسة التي تبعد كثيراً عن منزلهم, ولكن وردة تُصر على الذهاب حتى تزداد علماً تنتفع به, ثم إنها تحلم بأن تُكمل تعليمها المدرسي ثم تعليمها الجامعي كباقي رفيقاتها, تدخل المدرسة ثم تقف لتنظرها وعلى وجهها ترتسم ملامح الحزن ثم تُكمل طريقها بالدخول أكثر.

4

 تستمع للمعلمة وهي تشرح الدرس ثم تنظر للنافذة حيث شدها منظر العصفور الذي حَطَّ هناك بالقرب من النافذة المكسورة وهي تقول في نفسها:

“ليتني مثلك أيها الطائر أستطيع التحليق أينما أريد بحرية تامة!”.

هو أول يوم في رمضان, انتهى الدوام المدرسي لتمشي على الطريق التُّرابي قاصدة المنزل وقد أصابها التعب, انقضى اليوم لتجتمع العائلة جميعها حتى تُفطر على صوت أذان المغرب, فطورهم متواضع جداً لكونهم فقراء ثم يسمعوا صوت رصاص يصدح في أرجاء المكان.

الوالد:” لا إله إلا الله محمد رسول الله, حتى الإفطار في رمضان لا يدعونا نفطر براحة مطلقاً!”.

بعد الانتهاء من تناول الفطور البسيط أخذت الصغيرة الأطباق لتغسلهم من صنبور الماء المتواضع, توقفت فجأة ليأخذها فكرها في أمرٍ ما.

صوت الأم: “ألم تنتهي بعد من غسل الأطباق؟”.

وردة بارتباك:” لا,لا, سأنتهي الآن”.

“لا أعلم أين يأخذكِ فكركِ في بعض الأحيان!”.

تقف بعدها عند شباك غرفتها تنظر للمكان بسرور النظر. 

“وُلِدتُ على صوت إطلاق الرصاص, وكبرت عليه, ولازلت أحتمل صوته المُزعج, ولكن في يوم من الأيام قد لا يعيش أبنائي ما عشته أنا, أو حتى أحفادي أو أحفاد أحفادي”.

5

تمشي على الطريق الترابي وكلها سعادة حتى وإن كانت تعيش في بلد مُستَعمر

“قد لا أعيش العيد كباقي أطفال العالم, ولكني على الأقل سأعيشه بيني وبين نفسي بسعادة, أجل سأكون سعيدة لأهزم كل تلك الأحزان التي تلفني, عليَّ أن أكون كذلك”.

انقضت الأيام مُتتابعة وها هو هلال العيد قد وضحت رؤيته, الجميلة مُستلقية على سريرها تنظر السقف في انبساط.

“غداً العيد, تُرى هل سيأتي يوم سأقضي فيه العيد كما يقضيه باقي الأطفال في الأوطان الأخرى؟, كم أرغب بأن أحيا العيد كما يفعلون!”.

في صباحها وقفت تنظر لنفسها في المرآة وقد ارتدت فستان العيد الأبيض اللون الحريري, هي سعيدة به كثيراً رغم بساطته, وسعيدة بالعيد شأنها شأن أي طفلة أخرى, تناديها والدته.

“وردة, وردة”.

“نعم يا أُمَّاه, حالاً سآتي”.

تخرج في عَجَل

تقف على ذاك الجبل تنظر لفلسطين ومنازلها بسرور تام ولازالت بفستانها الأبيض, شعرها مفرود تُطايره الرياح الهادئة, تفرد يديها لتستنشق هواء فلسطين بسعادة ثم تدور في انبساط تام وهي تضحك ضحك خفيف ثم تتوقف لتقول: 

“سيأتي يوم لنعيش الحرية في هذا البلد, سيأتي يوم”.

https://palfcul.org/?p=14142 :رابط مختصر

Font Resize