24 March, 2025

مجنون في الشمس – بقلم أمين قزدار

  كان يُساوره شك بأن كل طبيبات المركز النفسي ، يُراقبنه ، يتجسسن على كل حركة أو حرف يصدر منه ،لذلك لم يتكلم منذ وطأت قدماه العنبر، فكلما اقترب منه إنسان صرخ بقوة، مُنددا:

نسيتُ سوطي  … لم ينس السوط .   

     لم يفهم موظفو المركز ما وراء عبارة هذا المجنون ، ما عدا عبد السميع الذي أرخى لحيته الكثة حتى أضحت تُحاكي لحية نيتشه ، لأنه تعمق في دراسة علم النفس و فقه اللغة الألمانية. فكر في أن يخدع المضطرب الجديد ، يوحي بأنه شديد المقاومة ،  وجهه مربع ، و أنفهُ يميل إلى الغلظة ، أظافره متسخة ولعاب على وجهه  يختلط بالقيء ، يمشي بتأن في غرفة  سريرية رقم 101، يمشي ثلاث خطوات فيدور حول الأريكة ثم يبتعد عنها ثلاث خطوات، و لاحظ الطبيب بأن جبهته قريبة الشبه من جبهات لومبروزو.

    بعد ستة أشهر من حصص الدعم النفسي ، ثلاث حصص في الأسبوع مليئة بالمقاومة النفسية ثم الصمت المطلق . قرر المضطرب غريب الأطوار أن يفصح عن أعماق صدماته بعد جهد جهيد .

  استلقى على الأريكة ، ثم زفر بحزن قبل أن يقول :       

   – كان الناس يسخرون من عبد الوفي ، لأنه لم يحمل بندقية في حياته و لو في ألعاب أيام عاشوراء المقدسة ، ثم يقلل أشجع القوم من مكانته . إنه يهاب صوت الرصاص ، بل يظنون بأنه يعشق السلام و لو كان على حساب تُراب أرضه . كان أشهر حقير يُمكن للإنسان أن يعرفه ، رجل يُشبه أبطال الأدب الروسي البُسطاء و لا يرقى لسمات فحول شعراء العرب . 

رفع رأسه من السرير ببطء شديد ، و بدا و كأنه يحمل أثقالا في رأسه ، ثم حدق في مقلة عبد السميع قائلا بنبرة ضعف :

-إذا جلبت مكتبة إلى غُرفتي ، سأُخبرك  بكل شيء .

-سأجلبها ، أعدك ، فقط أكمل ما بدأت .

 لوح عبد السميع بيده اليمنى طالبا منه العودة إلى الوضعية الأولى ، ثم باغته بسؤال مُباشر:

-هل تكره عبد الوفي أم تحبه ؟.

أحس المريض بالخوف ، فارتعش جسده ثم بدا أنه امتعض من السؤال ، لكنه تمتم قائلا:

– أحبه ، لأنه ضعيف الإرادة، ككل الأدباء الذين يُبرزون شجاعتهم بالحرف عوض السلاح تعويضا عن نقص في الفعل و لأنه قرر الرحيل بعيدا قومه … ثم أكرهه، لأنه الشخص الوحيد الذي كان بطلا في صمت ، بطل غير شعبي ، بطل بورجوازي .

– كيف يكون بطلا في نظرك ؟ سأله و هو يُنصت بعمق سيكولوجي لكل حرف ينبعث منه على الأريكة الإكلينيكية المزينة بثوب أزرق اللون . 

– كان عبد الوفي يُشبه يهوديا في كل  تفاصيل جسده و ملامح وجهه الجميل، كان ساحرا،  يُتقن العبرية و مهووس بالتقاليد و الأعراف اليهودية ، مما جعله يستغل هذا الشبه لصالحه حتى يعاشر اليهوديات.

زحفت في سيماء عبد السميع ملامح الفضول و الشوق لما سيسمع .

– كل ليلة … كل ليلة يغوي أجمل الفتيات من باب الجامعات ، حانات الليل ، الأزقة المُظلمة ،أرصفة  الشواطئ .

   ضحك بشكل هستيري ، فتوقف الطبيب عن الكتابة ثم ضغط على زر التسجيل الصوتي ، معانقا يديه ، ثم عدل من جلسته فوق كرسي خشبي .

-كان أنيقا أناقة تُشبه الإناث ، مكنته عذوبة اللسان من جعل كل فتاة تسقط في شبكته ، لا لشيء ، إلا ليشعر بعد الليلة الحمراء بأنه سرق شرفها  ثم يعذبها عن طريق تحليل نفسيتها ، ثم ينفذ إلى تاريخها السيكولوجي مستندا لفراسة الوجه ، و متكئا على كتب أرسطو و جالينوس و الإمام الرازي.

هل أستطيع شرب الماء ؟  

   منحه عبد السميع  كوب ماء بارد ثم حدس بأنه يُخفي وراء رشفة الماء سرا ما ، كل التفاصيل الصغيرة و التافهة في سلوك الإنسان ، تفسر أعمق الدوافع و بوابة نحو الحقيقة .

   -كان يُنشد لهن قبل النوم أشعار أبا كوفنر و أبو حمضة و أبو عفك و بعد نومهم يُرتل أشعار العرب .ألون الغرفة و أصمم السينوغرافيا المُناسبة لأتقن دوري كل ليلة ، أن تكون مُخرجا و مُمثلا فذلك لا ينجح دائما، لكن كل قلب يدخل مسرح غُرفتي تدق نبضاته  في الركح للمرة الأخيرة .

مرت دقيقة صمت ، دقيقة ضبابية ، فارغة ، أشبه بلحظة الموت .

كان ينظر فوقه مُباشرة في هُدوء فاحمر وجهه ثم صرخ بصوت مُزلزل :

   -أقتلهُن .

لم يقل عبد السميع حرفا ، لكنه فهم الآن ، كل ما قيل في ستة أشهر الماضية .

  حدق في عينيه مُباشرة  لأول مرة ، ثم قال بنبرة صادقة :

-سيُلقبني الإعلام بالإرهابي و سأمر في وثائقي بصفة” سفاح”  و البعض سينعتون صُوري بالشهيد ، ثم ماذا بعد ؟ سيضع أغلب التافهين فيديو قصير عني في مواقع التواصل الاجتماعي ، ليفتخروا بشجاعتي ، ليس بدافع التعاطف و الشفقة ، بل لأنهم يعيشون في وهم افتراضي، و عصر مخادع ، سيُعوضون شعورهم بالفراغ ، بالعدم ، بالجبن عن ظهري . أنت أيضا ، ستظهر في برنامج تلفزيوني مستقبلا ، لتُظهر مدى عمقك في تحليل نفسيتي ، ثم تستشهد بجاك لاكان لتفسر لهم ازدواجية الضمائر و تأويلات فرويد لتقول بأن الجنس أصل شروري وتلبس قبعة يونغ لتُظهر بأن شهريار ما زال حيا منذ ألف ليلة و ليلة في اللاوعي الجمعي ثم تذكر ابن سينا و بياجي و ميلاني كلاين ليُصفق الجميع لذكائك النفسي . ثم ماذا بعد ؟  

   انسكبت دمعة من عينيه اليمنى ، ثم أكمل قائلا :

-ستقول لهم بأن هذا الرجل قتل اليهوديات لينتقم لا شعوريا من استيطان أرضه الأم ،و تُظهر لهم بأنني متعدد الشخصيات ،شخصية تتحدث بضمير الغائب حتى تهرب من “أنا الفاعل” ، ثم ماذا بعد؟ لا شيء.

اندهش عبد السميع ، و لم يقاطع صرخة عبد الوفي :

-كلكم أوغاد  

 ذات صبيحة يوم من أيام الشتاء ، أخبرني جدي حكمة لم أستوعب عُمقها ، إلا بعد عشرين سنة :  يزفر الأسد القوي بعد الفعل و ليس بعد القول ، لأن الفعل الصائب يجعل كل أقوال المُنتصر صائبة مهما بدت منطقيا خاطئة.

Font Resize