في بيتِ حانون كان هناك طفلةٌ اسمها فاطمة سمراء اللون جميلة بهية صغيرة لا تتجاوزُ الخمسةَ عشرَ عامًا روحها مرحة وقلبها يخفق حُبًّا لا دمًا فحسب
ولكن العدو وآلةُ الطغيانِ والجريمةِ دَمَّرَت كُلَّ زُقاقٍ وبيتٍ وذكرى في مسقطِ رأسِها ومَن هو قطعةٌ مِنْ قلبِها حتى لم يسلم منه الشجرُ ولا الحجرُ فأضحتْ المدينةُ كمصنعٍ يعملُ لإعادةِ تدويرِ الركام فلا حياة تهنىء بها ولا طعام وشراب يُبقياها على قيدِ الحياة وفي تعدادِ الأحياء لا الأموات والأشلاء.
فاضطرت أن تنزحَ من بيت حانون وهي تحملُ الغصَّةَ في قلبها وتَحبِسُ الدمعةَ في عينيها فقد سارت وقطعت العشرات من الكيلومترات مشيًا على الأقدام وتحت أشعةِ الشمس الحارقة التي تشوي الوجوه وتكوي جباه الرؤوس ولا تملك ولا تحمل الطعام والشراب إلّا قفصًا حديديًّا داخله عصفور ذي حجم كبير
وإذ قد تتفاجأ فتاةٌ صحفيةٌ اسمها حنين سالم حينما رأت طفلةً صغيرةً تحملُ قفصًا فيه عصفور فبانت أماراتُ وجهها مُظهرةً الدهشة والتعجب حتى بدأت تُصَوِّرُ بها عبر كاميرا هاتفِها وسارت نحوها وهي متلهفة متعطشة لسماع منها أمرها العجيب بحملِ ذلك العصفور الذي على قلبِها كالعسلِ والزبيبِ.
– مرحبا، كيف حالك؟
– هلا، الحمدلله
– شو اسمك؟
فردّت عليها بصوت براءة الطفولة
– فاطمة
– أنت من وين نازحة؟
– من بيت حانون
– هذا عصفورك؟
فبادرت بالإجابة بنبرةِ حُبٍّ عميق مفعم بالحنان
- اه عصفوري
وإذ غطَّت ملامح الاستغراب والتعجب وجه حنين حتى بادرت بالسؤال وطغى على نبرة صوتها أوتار الدهشة
- يعني أنت حاملة العصفور كل هذه المسافة؟!
تُجيبها وهي قد جفَّ حلقها، وقرص الجوع معدتها، وتحملها ساقاها بشق الأنفس وأغبَّر شعرها
– اه
– طيب ليه؟
أخذت هنيهة من الوقت ثم أنطلق الكلام من مضمار لسانها ليتسارع إلى الوصول إلى قلب كل إنسان هيِّنٍ لينٍ سهلٍ
- لأنو عصفوري وقت ما بكون معي بحس بالأمان
نزحنا أكثر من مرة، رحنا على دار سيدي وأخذتو معي ورحنا على المدرسة عشان أنام فيها وكمان أخذتو معي
وهينا الحين رايحين على معسكر الشاطىء وكمان جبتو وأخذتو معي.
ثم أكملت كلامها وهي ما زالت تحمل القفص الذي يحمل عصفورها وتهزّ برأسها يمينًا وشمالًا وغردت تقول وكأنّها تربطها رابطة إخوة بالدم والجينات بينها وبين عصفورها
- أنا اذا عشت عصفوري بيعيش معي واذا متت عصفوري بموت معي.
وإذ كادت حنين تسقط دمعتها على وجنتيها من كلام فاطمة المتوج بأكاليلَ من العطف والحنان والرفق رغم ضيق حالها ووعثاء الطريق وقلة زادها من طعام وشراب وألم فراق الأحباب الذين ارتقوا من عائلتها شهداء حتى تدفقت الكلمات من فمها مغلفة بخوف الأم وحنانها على ابنتها وأميرة حياتها
- بعيد الشر عنك
ثم أردفت:
– شو اسمو عصفورك؟
– منصور
فدنت واقتربت حنين وقرَّبت الكاميرا من منصور تصوره بدقة أعلى وأصبحت تغرد وتقول:
- وهي منصور صديق فاطمة.
فلم يكن النزوح يستطيع القضاء على ذرة واحدة من هذا الحب العريق بين طفلة وعصفور
ومن سابع المستحيلات أنّ الحزن العميق وصعوبة الطريق المليئة برائحة الموت القريب والمسك ممّن عانقت أرواحهم السماء ورسمت دمائهم خارطة الوطن أن يفسخ العلاقة الأخوية والرابطة الوطيدة بين طفلة صغيرة وعصفورها منصور