غزّة في مخيّلتي طفلةٌ صغيرة، بارعةُ الجمال، مميّزة الملامحِ والتضاريس، حيويةٌ لكنّها متّزنة، حالمةٌ وواقعية، مرتّبةٌ بفوضوية.
بيضاءٌ وكأنها غيمة، عيناها مُخضرّتان كما الزيتون، شعرها بُنيٌّ كأغصانه، لها زهورٌ في شُرفتها، وطيورُ حمَامٍ في حديقتها.
ترسُمُ أحلامها وتُعلّقها على الجدران، وتستلقي بين زهورها لتتأمل الغيوم، تُبعثِرُ أشيائها في كل مكان، لكنّها تُعيد ترتيبها قبل أن تنام، لتصحو في الصباح التالي لتُعيد بعثرتها من جديد.
مُسالمةٌ مع الكُل، تحضن إخوتها كل صباح، تقاسمهم حِصّتها من الحلوى ولا تنام قبل أن تُقبّلهم.
أتى عجوزٌ أشعثٌ ذو نفوذ، افتُتِنَ بها وتلذذت نفسُهُ المريضة بتعذيبها، فأضحى يضربُها بانتظام، اكتفت بالبكاء ولم تعترض خوفاً منه، فحضر ذات يومٍ ومعه مقص، أراد اجتزاز شعرها البنّي الطويل، فصرخت ودفعته مُعترضة فاستشاظ غضباً وأخذها لتُحاكم.. حُكِمَ عليها ظُلمًا بالسجن المؤبد مع التعذيب ورُميت داخل زنزانةٍ ضيّقة.
تكورت على نفسها بحثاً عن الأمان، تحسست بيدٍ مرتجفة شعرها المقصوص والكدمات التي أحالت لونها الأبيض إلى الرمادي، فنزفت خضراوَتاها الدمع قهراً، ما يؤلمها ليس قسوة الجلّاد؛ بل تفرّج إخوتها بصمت خوفاً من جبروتِ العجوز.
أتتها حمامةٌ خلسة من نافذة الزنزانة مُلطّخةً بدماءِ بقية الحمام، أخبرتها أن العجوزَ قد اجتثّ الأزهار وذبح الحمام، ومزّق رسوماتها التي على الجدار وحرقها فأضحى الدخانُ يُغلّف السماء، والرمادُ يفرش الحديقة، والسوادُ يطلي الجدران والأسودُ يُغطّي كُلَّ شيء!
صرخت ملءَ حنجرتِها مستغيثةً بإخوتها دون أن يتحرك لهم ساكن، استسلمت الصغيرة وارتدت ثوبَ الحدادِ على نفسها، وحيدةً تنزف ولا تجد مُداوياً لجُرحها، تحتضر ولا تجد مُمسكاً بيدها، تُظلمُ ولا تجد من ينصرها.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=14079