يعود حنظلة من بعيد حاملا معه هموم الماضي. “يدخل حلبة الرقص حصانا”، مواجها الجمهور الذي طالما ولاه ظهره. حنظلة لا يراقب ولا ينظر ولا يتأمل حاليا ، لقد استقال من تلك المهام. إنه يتسكع باحثا عن بيت يقضي فيه ليلة دافئة تنقذه من برودة الطقس في الزاوية التي يسكنها منذ ولادته، ومن برودة العواطف المكنونة التي انكشفت فجأة. لم يرحب به أحد، فالحدود مغلقة والجمارك على قدم وساق تطرد العربي من حدود الممالك التي صارت مهالك، وترحب بغيره ترحيبا فوق العادة” أهلا وسهلا، نورتنا، البيت بيتك”. و حنظلة لا يبكي لأنه يفهم. أفي هذه الظروف حقا يفهم؟
لا إنه لم يعد يفهم، لقد تخلى عن قناعاته. حينما كان يولينا ظهره، كان يتنبأ بالمصير لأنه كان يسأل لكي يفهم: “من أين جاءت قوة الوحش الغامضة؟”
جاء ممزقا سرواله، وفي يده لفافة تبغ معجون والحشيشَ. لقد أزرى به الدهر، إنه لا يأبه لأحد. أوقفه رجال شداد غلاظ يستنطقونه: فجاءهم الرد همسا أشبه بالفحيح. : “وقد فتشوا صوته فلم يجدوا غير حزنه” و” …. قد فتشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه”.
يمر حنظلة أمام المقاهي، تقاسيم وجهه كالموناليزا: بارد غير متألم، لا يبدي عواطف. إنه صورتنا، كنا نتألم بألمه. لم نعد كذلك، ولم يعد كذلك. لقد عرفنا واحدا واحدا، خائنا خائنا، ولكننا لم نعرفه. نسيناه في زحمة الهموم الكثيرة التي أصبحت تنغص عيشنا.
يبحث حنظلة عن شيء مفيد عندنا(منذ أن تركنا)، صنعناه بعرق جبيننا، بسهرنا، بتعبنا، فلم يجد شيئا ذا بال. انزعج من صياح معلقي مباريات كرة القدم: أهم إنتاج عربي حاليا: إنهم يصيحون من أجل الآخر و من أجل جيوبهم: ماذا لو وحدوا صوتهم المجلجل في وجه الوحش: صيحة رجل واحد تعيده إلى غابته.
جلس حنظلة في مقهى، لم يقصده النادل كما بقية المرتادين، فلعله لم يره، أو أنه تجاهله. شرب حنظلة اسمه فمات. مات لأنه شربه منقوصا من التاء المربوطة. تركها لنا لنمارس عليها وبها “عنترياتنا”. ترك لنا التاء مربوطة على قارعة الطريق تنتظر – لا مفرها لها- الوحش. وها قد جاء الوحش، قشر النقطتين وبدأ يضحك: ها ها يا للمفاجأة.. إنه سلام أو استسلام مقابل لا شيء.
يا زائرنا – يا حنظ- تقبل عذرنا…
فنحن كما تركتنا من قبل، ما زلنا: ربنا كما خلقتنا.
يا حنظ … بلغ سلامنا إلى من سبقنا: إلى الذين تساءلوا: “متى يعلنون وفاة العرب”؟ إلى الذين تساءلوا: “هل جاء زمان نَستقبِل فيه ,,, بالورد وآلاف الحمام والنشيد الوطني”؟ قل لهم: لقد قتلنا بأيدينا الحمام و ضربنا لهم تعظيم سلام.
قل لهم: مازلنا “ننام كالأغنام ونبول كالأغنام.”
وما زلنا نستجدي المواطنة عاما بعد عام.
قل لهم إن الأمور تغيرت، لا بل ساءت، وصار الخلق يتحدثون – وهم يفاوضون- عن:” زراعة الأمل في المستقبل” ويقصدون بها أنهم يتبعون الوهم ” و في التيه أربعين عاما سيتيهون”، وسيربحون ما ربح من المفاوضات سابقوهم، ف”: ذرهم يلههم الأمل فسوف يعلمون”.
رجعت أنت الوحيد -من فرقة الوعي المشاغب الواخز لضمير متماوت-، إلى الحياة، لتنقل الخبر اليقين، لتُطمئن الآخرين على حالنا.
وكل ذلك لأنك، وفي غفلة منك، غشيت الوغى بكبرياء وتعففت عند المغنم
امض حنظ امض… أ تراك جئت تبحث عن بيت بيننا؟
أم تراك جئت تقيس غدرنا؟ امض … فقد خرج الشرفاء من بيت، بالجبن، مفعم.
رابط مختصر : https://palfcul.org/?p=13964