ولدت في الناصرة،.. ولدت في غزة.. تلك هي بطاقة التعريف األولى لكل فلسطيني. أما أنا فقد ولدت في القدس، حرة كأطيارها، أستيقظ كل صباح مع أذان فجر مسجدنا األقصي، القريب على بعد أمتار من كل مدن فلسطين، البعيد للغاية تشعر، وكأنه لم يمس ، ولن يمس، عزيز بعزة ربه، جميل بجمال الجنة، أو ربما هو الجنة، التي لها عشرة أبواب مفتوحة، لكل باب اسم قديم، عظيم، ظاهر، باطن، سر لم يطلع عليه بشر. دخلته أول مرة بيد أبي من باب األسباط، طفت حول أبوابه األربع المنغلقة ، بكيت عند باب الرحمة، طهروا قلبي في سبيل الكأس يوم ميالدي، صعدت مآذنة األرواح يوم نجاحي األول، اختبأت في قبة يوسف يوم إستشهاد أبي كي ال يرى أحدا سرت في درب اآلالم أعوام، ً دموعي، حاملة حقيبتي على ظهرى حتى جبل الزيتون، أنفد كل يوم من عدة طرق متوالية متوارية ألشهد مدينتي وتشهدني، أحفظها وتحفظني، أتشرب دقائقها، أبصم على أرضها، تختم على كتفي، أطير وأطير بعيدا، وأعود. أتلق العهد كل لحظة، ثم أنفد إلى زاوية الشيخ جراح أذكر، وأذاكر، وأطالع، أنام وأستيقظ. لم أختلف كثيرا في المهارة عن أقراني. ً أصبحت منذ خمسة أعوام، طبيبة جراحة، أجريت في تلك المدة البسيطة جراحات عديدة، ضمدت جراح غائرة، سالت دماء على ثوبي، انقطعت إضاءة أثناء عمليات دقيقة، توقفت أجهزة مرات، كافحنا في معارك جانبية، بترت أقدام، وأيادي، توقفت قلوب لم أستطع إنقاذها، شاهدت خاليا حية، وآمال كبيرة تنمو خاللها، كفاح عظيم جعلني أحاول، وأحاول اللحاق بها، فاستطعت ردها للحياة واليقظة. كان العهد الذي تلقيته، أن أحافظ قدر استطاعتي على الحياة واليقين واألمل في يوم جديد ربما يكون هو األجمل واألفضل على اإلطالق، يوم للحرية. قبل سبعة أشهر حدثت معجزة محققة بين أيادينا استطاعنا استخراج خمس طلقات من نواح متفرقة لجسد طفل في الثانية عشر، عمر. تلقينا عمر ميتا، هناك أقل من ذرة أمل في رأسه، ذرة واحدة، ذرة، ليس لدينا جهاز دقيق لقياسها، لكنني شعرت بها. حدثت المعجزة، دق قلب الطفل، حدثت معجزة جديدة لم نتوقعها، استيقظ من الغيبوبة بعد أيام قليلة. قبضت على سلطات اإلحتالل بعد أيام. عزلت عن العالم منذ سبعة أشهر كاملة، ربما هي بسيطة في عمر الزمن أو التاريخ، لكنها أعوام على األسير، أعوام لن يتخيلها أبداً إال من عاشها، لم أرى أمي وأختي. كل يوم أكرر اسمي مرات، أعيد على نفسي حياتي وتاريخي بأكمله حتى هذه اللحظات، كي ال أنسى، لم تكن لدي أدوات ألكتب على الجدران لتكون الصلة بيني وبين العالم. بدأت النقرات اليومية بنفس األداء المميت، زادت إضاءة الكشاف المسلط في منتصف الغرفة، زادت الروائح العفنة، لم أتناول الطعام إال قليال،ً للضرورة، مجرد تناول الطعام أصبح مجازفة، واإلمتناع عنه مجازفة أكبر. بدأ بث السموم، مواد خطيرة، بإمكانها التأثيرعلى حالة اإلتزان النفسي والعقلي، كنت أجاهد ألحتفظ بمعرفة تأثيراتها المختلفة، ساعات من هوس أجاهد للسيطرة عليه، هياج جنسي، لعب في الهرمونات، األعصاب، إكتئاب مبالغ فيه في أقوى لحظات اليقين، العقل يمحى في لحظة، الرؤية تنعدم في لحظات، ساعات من بكاء غير متوقع، قئ غريب، عدم التحكم في حالة التبول، كان تعذيبا لن يستطيعه بشر، شعرت في لحظات بأن الصبر ً والصمود مزعجا وقاتالً لهم، فاخترعوا ً هذه اآللية ل لتعذيب، ليستطيعوا إخضاع األسير بنفاذ صبره. )1( بأن هذه السموم تسرب لذهني مرارا وحدها كفيلة بالقضاء على، لكنني كنت على يقين بأنني ً سأعود. شعرت بالحرية أكثر، وبقوة جعلتني أتمسك بالثبات والحياة. النقرات تزداد. النقرات تختفي. اإلضاءة تزيد. اإلضاءة تنعدم. أصوات أقدام تقترب. همهمات، أصوات مختلطة، األصوات تتضح، تقترب. – هذه البنت ستموت. – الطعام مسموم. نظرت للطعام، سألت ربي القوة، وأن يفسد أي سم، تناولت قطعة خبز، ثم قذفت عدة قطع في فمي مرة واحدة، شربت الماء، صوت ضحكات مبالغ فيه. عزلت نفسي عن السمع حتى ال ألوث سمعي أكثر، غبت في أماكن أخرى من الراحة، والحب، والدفء، اشتريت نخل وزرعته في بيتنا، قابلت رفيق العمر، تذكرت عمر، المأذنة، السبيل، الرواق. سندت رأسي على الحائط، اختفت األصوات التي تتكرر عبر أيام أو ساعات، أو أسابيع، يأت أحياناً صمتا قاتال،ً أتجاوزه. ً شعرت بدوار، أغمضت عيوني. فتحت عيوني كنت ملقاة على سرير، مقيدة، بدأ نفس اإلستجواب الغريب الذي تم لعدة مرات بطرق مختلفة : – أجريت كام عملية؟ – ال أذكر. – أخرجت كام رصاصة من هذا الكلب. – خمس. – من ساعدك؟ – هللا. – من يساعدكم يا كلبة؟ – هللا. نزلت اللكمات على وجهي والصفعات والركالت على جسدي، فقدت الوعي. فتحت عيوني على آلم رهيب، وبرد شديد وكأنني مجردة من مالبسي، لم أستطع رفع يدي ألتبين ذلك، كان المكان مظلما تماما، أغمضت عيوني مرة أخرى، سقطت في غيبوبة. رأيتني في نور عظيم، أمش في السماء، في براح عظيم، أمامي عن بعد رجل طويل للغاية بمالبس بيضاء طويلة خفيفة وشعر منسدل حتى كتفيه، يسير وأنا خلفه، حاولت اللحاق به، لكنني لم أستطع، فجأة ظهر األقصى من بعيد، خلفه كل الشهداء والجرحى الذين شاهدتهم، قامتهم طويلة جدا في نفس حجم الرجل، بمالبس بيضاء، بدأت األرض تتشقق شيئاً فشيئاً حول باحة المسجد ، خرج منها بشر هائلة، التئمت األرض مرة ثانية، تحولت لعشب أخضر. بدأت كل البشر تجري في مرح غريب في اتجاهات مختلفة كأنهم أطفال في نزهة، خلت الساحة. )2( رأيت من بعيد جدران السجون تتآكل، تختفي تماما،ً حل محلها أشجار زيتون، رمان، مانجو، كست روائح الفاكهة المكان حولي مختلطة براوئح غرائبية بديعة، ونسيما لذيذاً وجدت بيدي ً سلة ممتلئة بالفاكهة، فجأة وجدتني أنزل من مآذنة األرواح لصحن المسجد، وجدت ثالث رجال عند القبلة على وشك الصالة، شعرت أن أبي بينهم، وجدت أمي بجواري، رفعت يدي أعطيتها عنقودا من الكرز، التفت نحوي الرجل الواقف على اليمين، كان أجمل من رأيت في ً حياتي، جميال،ً كأنه النور، كأنه الزهور، كأنه الحب، كأنه من هللا، بعيون سوداء كحيلة وحواجب سوداء بديعة، شعرت بقلبي ينفطر من جماله الرباني، سمعت أمي تقول، هذا هو النبي محمد )صل هللا عليه وسلم( رددت المالئكة: صل هللا عليك يا محمد أحب هللا من أحب محمد التفت أبي نحوي، حياني برأسه، التفت الرجل الواقف بعده بوجه منحوت يشبه الرجل ذو الجلباب األبيض، غردت أصوات: “السالم عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا” ذلك عيسى ابن مريم. التفتوا جميعا مرة أخرى وجهة القبلة، تقدم النبي خطوة، آم المصلين، وأنا وأمي خلفهم. ً فجأءة وجدتني مرة أخرى خارج المسجد بجوار الرجل ذو الجلباب األبيض واللحية البيضاء، مسح بيده على رأسي، شعرت بارتياح، وسكينة وسالم. قبلما أسأله من يكون، طافت حولنا أطفال كثيرة، كان أخرهم عمر، اقترب مني: – إنه خليل الرحمن. – عمر، أنت بخير؟ – بلي ، سأراك بعد أيام قليلة، هنا في ساحة األقصى. ابتسم الخليل، تجمع األطفال في صفين طويلين أمسك كل صف بيد الخليل، صعد بهم لسماء أخرى. بقيت أنا وعمر في السماء نتطلع إليهم وعن يميننا المسجد األقصى. انطلق األذان مرة أخرى. هللا أكبر .. هللا أكبر. سرى نغما صافياً ربانياًمالئكيا،ً زاد النور. ً كست روائح الفاكهة المكان حولي مختلطة براوئح غرائبية بديعة، ونسيما لذيذا.ً ً فتحت عيوني، وجدتني على سرير في مشفى، رفعت يدي تنسمت فيها رائحة الفاكهة، وآثر الكرز، قبلت يدي، وجدتني أكرر ال شعوريا.ً رأيت منذ قليل سيدنا محمد صل هللا عليه وسلم حبيب الرحمن، رأيت المسيح عيسى ابن مريم، مسح سيدنا إبراهيم خليل الرحمن على رأسي. أنا عهد. عهد عمر خضر، المقدسية، المسلمة، الحرة.
رابط مختصر : https://palfcul.org/?p=14133