8 December, 2024

طفـل عربي – بقلم موسى نجيب موسى

الساعة تقترب من الثانية عشرة من منتصف الليلة الأخيرة من شهر ديسمبر البارد.. المكان طرف بعيد جداً من المدينة المترامية الأطراف وصوت مقرئ يكاد يصل إلى أذن طفل يحتل هذا المكان بجسده الضئيل يشاكس (راكية) النار التي تبعثر رمادها في وجهه الذابل.. يحاول النفخ فيها عله يعيد لها الحياة أو تعيد له بعضاً من الدفء الذي فقده منذ زمن.ينظر بعيداً يتأمل وجه المدينة الشاحب الذي تكسوه سحابة ضبابية تماماً وتلقي باقي ظلالها الرمادية على باقي جسد المدينة الواهن من بيوت متناثرة على أطرافه.. الضوء الشاحب المشبع بدخان (الراكية) الذي كاد أن يختنق من موت النار في (الراكية) يكاد يصل إلى عينيه يحاول بصعوبة كبيرة أن يبعث داخله ببعض الأمل الذي طار منه في إحدى ليالي ديسمبر الأولى.. بشر كثيرون.. جيش كبير مدجج بالسلاح يشرخ جدار الليل.. قهقهات وقرقعات وأصوات مبهمة لا تجد أذنه أدنى ألفه لها أو يجد عقله مفاتيح لحل رموزها.. يركلون أباه ويتبادلون لكمه بينهم وسط بريق غريب يملأ أعينهم.. ساحة المعركة انتقلت من جسد أبيه الهزيل إلى جسد أمه البض وجسد أخته البكر.. ابتسامة رائعة كانت تمرح على شفاه أخته قتلتها نزوة أحدهم في غفلة.. النار تزداد موتاً يحاول بطرف فستان زفاف أخته -الذي لم تلبسه بعد ويصطحبه معه في كل مكان- أن يعيد بعض الحياة للنار التي ستذهب إلى العدم.. لم تفلح محاولاته.. ماتت النار أخيراً.. أخذ نفساً عميقاً من الهواء المدنس بزفير المدججين بالسلاح.. ضرب بكفه الصغير قلب النار عله ينبض مرة أخرى بعد موات مؤقت لكنه أعادها بسرعة مرة أخرى بعض أن طبعت إحدى الجمرات قبل موتها النهائي قبلة ساخنة على أطراف أصابعه الرقيقة.. من بعيد وفي ضوء أخر عمود إنارة يرقد على فوهة القرية لاح له شبح ضخم فقفزت على شفتيه ابتسامة واسعة أراحت القلب من ركضاته السريعة النابضة بالخوف والوجع.. الشبح يقترب منه أكثر وأكثر.. كل يوم كان أخوه يأتي له بالحلوى التي يعشقها لا يعرف لماذا لم يعد يشتري له الحلوى منذ أن زارهم هؤلاء المدججون بالسلاح؟!!.. كان يذهب معه إلى المدرسة حيث كان يكبره بعدة أعوام وعند العودة يشتري له كل ما يريد ويتمني.عندما كانت تحدث مشكلة – ونادراً ما كانت تحدث – بينهما كانوا يقولون له في كل مرة أنه الأكبر ويجب عليه طاعته واحترامه مثلما يطيع ويحترم أباه.. لم يعد يذهب للمدرسة كما أنه لم يعد يرى أخيه الذي اصطحبه معهم هؤلاء المدججون بالسلاح عندما اعترض عليهم بشدة على ما فعلوه بهم جميعاً.. لمحة من حياة ولت برقت في ذهنه مع بعض ذكريات تمني أن تعود.. لم يمل من نفخ النار علها تنبض بالحياة مرة أخرى لكنها لا تستجيب لمحاولاته المتكررة لكن مع أخر محاولة مجهدة لإعادة النار إلى ما كانت عليه شعر بتيار بارد من الهواء يصطدم بوجهه.. تعجب لاستجابة النار لهذا التيار المنعش.. رفع رأسه وجده أمامه بزيه الأحمر المعتاد وغطاء رأسه الجميل الطويل.لحيته البيضاء وشاربه الكث الأبيض يعكسان ضوءاً مبهجاً على وجهه المبتسم.. يلقى خلف ظهره “بُقجة” هداياه الرائعة.. ابتسم له فكشف من بين شعر الشارب واللحية عن صفين من الأسنان اللامعة.. مد الشيخ يده إلى وجهه ليمسح دموعه التي طفرت رغما عنه قال له بصوت حنون لم يعد يسمع مثله:

– أعلم أنك تنتظر أخاك الكبير بعد ضياع الجميع.. أصبر فإن أخاك رهن قضية لا ذنب له فيها ولكنها قضيته وقضيتك أنت أيضاً أيها البريء.انتقض الشيخ فجأة وعاد يقول وهو يلوح بيده تجاه الأرض البراح أمامه:

– وقضية كل إنسان في هذه الأرض المنكسرة الذي فُض غشاء بكارتها قهراً… 

نظر إليه الطفل بفرح وهتف قائلاً: 

– أنت.. أخيراً جئت لي.. كثيراً ما تمنيت أن أراك وأن أقابلك.. فكثيراً ما شوقتني إليك جدتي العجوز وهي تحكي لي حكاياتها الجميلة عنك وعن عطاياك الإلهية وعن الناس والأرض والأعداء و…. و.. 

– وأين جدتك الآن؟ 

– حقيقي لا تعلم أنت أين جدتي الآن؟ وأن كنت لا تعلم فكيف علمت بغياب أخي وضياع الجميع؟!! 

– يا أبني أنا سجل حي ينبض بالوجود لكل طفل في هذه الأرض المنكسرة.. أمسح الدمعة.. وأرسم البسمة التائهة في ثنايا نجمة داود التي تكاد تخنق بسداسيتها المقيتة الجميع في هذه الأرض المقدسة. 

ابتسم الطفل وأخذت الكلمات تندفع من بين شفتيه الجافتين:

– لقد ذهبت جدتي إلى الملائكة والأبرار.. رغم أنها ذهبت دون إرادتها وإرادتي أنا أيضاً. 

ضحك الشيخ وأرسل إلى الطفل حروفه الناعمة: 

– طالما أنها عند الملائكة والأبرار فلا تخف عليها إذن ولا تحزن أيضاً. 

 بعدها سحب الشيخ دفتراًُ أبيض وقلماً أبيض وقال للطفل: 

– الآن.. قل لي ما تريد أن تحكيه للتاريخ وأنا أسجله لك.. فأنا أفعل ذلك مع كل طفل أقابله في مثل هذه المناسبة من كل عام. 

لم يتردد الطفل لحظة فانفتحت فوهة فمه وانطلقت الكلمات بلا قيود حكى له عن بقع الدم الحمراء التي رآها تلطخ فستان زفاف أخته وعندما وجد جحوظ عينيه من فرط الدهشة سحب الفستان من مكمنه أسفل مقعدته وأراه البقع الكثيرة التي غيرت مع فعل الزمن وجه الفستان الباسم. كذلك حكى له عن أخيه وأحلامه العريضة التي رحلت عن مخدعه برحيله مع هؤلاء المدججين، وعن جدته الغالية التي كانت تجلس معه على عتبة الدار الخارجية تحكي له عن جده وشجاعته في مواجهة الباطل / الغاشم/ المغتصب قبل أن يخطفها الموت عنوة،وعن أمه التي أصابها العمى بمجرد أن ألقى أحدهم بحيواناته المدنسة في جوفها الطاهر وما لبثت أن لحقت بجدته، وعن أبيه الذي لم يجد أحدهم شيئاً يشبع فيه رغبته الشاذة سواه فأستسلم له بوداعه غريبة،وبعد أن رحلوا علق نفسه على أحد أفرع الشجرة التي زرعها ذات صباح لتظلل عليهم وتحميهم من المختبئ لهم في نية الزمن الغادرة.. ابتسم ثم حكى له عنه وعن زملائه الأطفال الذين كانوا يرشقون بالحجارة وجه الحقيقة المزيف حتى يدمى، وحكى له أيضاً عن زميلته “راندا” التي رحلت مع أهلها هرباً من الأرض الشراقي والأغلال الحديدية التي تزينت بها أيدي الجميع دون استثناء.. توقف الطفل ونظر إلى الشيخ الذي ابتلت لحيته البيضاء بالدموع حتى فاضت عنها وأخذت تتساقط بغزارة على صفحات دفتره الأبيض.. بعد أن انتهى الشيخ من تسجيل كل شيء طوى دفتره المبلل ثم دفع إلى الطفل بكرة حديدية وقال له:

هذه هي هديتي لك هذا العام فاحتفظ بها علها تنفعك يوماً.

    بعدها هب الشيخ واقفاً وعندما أدار ظهره للطفل انطفأت النار تماماً وهمدت حتى من دخانها.في هذا الوقت تماماً خرج المصلون من احد المساجد القريبة بعد ان فرغوا لتوهم من اداء شعائر صلاة الفجر ثم اتجهوا جميعاً صوب الطفل مباشرة وأحاطوا به فيما يشبه الدائرة واحتلفوا معه بميلاد فجر العام الجديد بينما هو راح يلقي بالكرة الحديدية في الهواء إلى أعلى ثم يتلقفها بيديه التي لم تعد رقيقة بعد.

رابط مختصر : https://palfcul.org/?p=14123

Font Resize