– إني أسقط ……….. !.
فجأة اختفت الحيطان… فجأة وجدت نفسي معلقة في فضاء شاسع مظلم… لم أكن وحدي… آخرون غيري جرفهم التيار للسقوط في أمكنة أخرى بعيدة… أمّا أنا فأحس أنّه لا مكان لي… ما أطول المسافات، و ما أسوأ السقوط من المسافات البعيدة.
– مدّي يدك.
صوت دوّى الفضاء… لم أستطع تحدد مصدره و لا اتجاهه… منذ مدة صرت أخلط بين الاتجاهات… حتى أولئك الذين جرفهم التيار، طيلة زمن اعتمدوا على الشمس… أمّا الشمس فكان لها مزاج آخر… لا الشرق شرق و لا الغرب غرب… حتى هي أضاعت البوصلة.
– مدّي يدك.
مازال الصوت يدوّي… و ما زلتُ أصرخ:
– إني أسقط… أسقط… أسقط
أغمضت عيني… كنت خائفة من هذا الفضاء العاتم… خائفة من رتابة السقوط اللا منتهي… شيء في داخلي كان يتمنى ” آه… ما أجمل السقوط على أرض صلبة”.
– مدّي يدك… تمة أرض ! .
هكذا قال الصوت كمن يقرأ أفكاري… و لكن قوة السقوط إلى الأسفل تشوش عليّ تحديد الجهة… لا أقوى أيضا على مد يدي المشدود إلى أعلى كمن يرغب في الانفصال عن باقي جسدي… هذا الفضاء المشدود على جسمي يعيقني…
– مدّي يدك… هذا الفضاء هش.
مرة أخرى يقرأ الصوت ما أفكر فيه… لست أدري لمن هذا الصوت… و أي أرض يتحدث عنها و يراها في هذا الفضاء الواسع… ثم كيف يمكنني أن أمدّ يدي !؟ … و أين !؟ … و كيف !؟ … و لمن !؟ … و متى !؟ … و في أية جهة !؟ .
قال الصوت: مدّي يدك … لا تسألي كثيرا.
جمعت قواي… حاولت مرة مدّ يدي… فشلت… حاولت مرتين… فشلت… حاولت مرات عديدة… لم يكن الفضاء هشا أبدا… و لكن !… أخيرا ها هي يدّي تمتد بصعوبة فتحتضنها يد أخرى .
– إني أسقط… و أتألم.
هكذا كنت أردد من شدة ضغط القوى الكثيرة المسلطة عليّ … قوة هذا الفضاء الذي يلفني… قوة السقوط الحر الذي يجرفني إلى الأسفل… و قوة هذه اليد التي تغيّر من مساري، و تحاول إخراجي تماما كمن يحاول إخراج فيل من ثقب إبرة.
– إنّي أسقط… و أتمزق.
هكذا كنت أصرخ… أمّا الصوت فقال:
– لا بأس… تمة أرض… أرض البدايات.
كانت هذه آخر الكلمات التي سمعتها… و بعدها أغمي عليّ.
2- أرض البدايات
أنا لم أكن أعلم أنّ لرحلة السقوط محطات استثنائية… عندما تدخل إلى أرض البدايات تدرك أن عبء النهاية تركناه هناك بعيدا… لم أكن أعلم أيضا أن بعض من تختارهم الأرض للبقاء هم أناس يعبرونها يحملون حقائب الموت و تأشيرة اللاّ عودة… لم أكن أدري أنك ستكون هنا عندما تنبذك الأراضي كلها، و عندما تضيق الأمكنة عليك، و تهجرك الأراضي و الجدران… و تبقى وحيدا معلقا في الفضاء، لا أرض صلبة تحت قدميك !.
أدركت الآن أنك هنا… أنك مثلي و مثل الباقين الباحثين عن أرض ليقفوا عليها.
– انظري… أصبحت تحت أقدامنا أرض صلبة.
هكذا قلتَ و قد كنتَ في الأمس القريب فقط تحيا زمن السقوط و الضياع… ترميك المسافات البعيدة من ملجأ لآخر… تتقاذفك الحدود… ينبذك بعض الناس لأنك ضيّعت أرضكَ… و يشفق عليك بعضهم لأنّ أرضك ضاعت منك.
- انظري… صارت لنا أرض… و صارت لنا بداية.
ملء فيك أخذت تصرخ بهذه العبارة… كنت كالمجنون تدق بقدميك أرضك المزعومة… أمّا أنا فكنت جاثمة مكاني، أحاول أن أصدق أنّ زمن السقوط انتهى، و إني أقف فعلا على أرض صلبة حقيقية… سألتكَ بعدما صدقتُ ذلك:
- لمن هذه الأرض؟.
قلتَ بجنون: أرضنا… أرض الأموات.
ركضتُ فجأة… كنتُ أصرخُ، أرددُ بفرح كبير كلمة “الأموات” … و كنتَ تركض خلفي… كنتَ مجنونا مثلي تسعدُ برؤية الأموات و لقائهم… توقفتُ فجأة… اندهشتُ لأنّ الأرض كانت شاسعة، و لم تكن لها حدود… سألتكَ مرة أخرى:
- أيمكن أن تكون لنا بداية بحجم هذه الأرض.
قلتَ: يمكن.
و أخذتَ تدور على قدم واحدة كطفل صغير امتلك لعبة مسليّة… أخذتَ تقفز هنا و هناك… ترفع صوتك إلى أعلى السماء… قلتَ بتفاؤل:
– سنبني هنا منزلا و قربه مزرعة… سنبني مدرسة و بنايات كثيرة… كثيرة جدا و واسعة.
غادرك التفاؤل فجأة… توقفتَ… نظرتَ إليَّ… قلتَ بصوت مهزوم:
- واسعة… واسعة جدا كي لا تذكرني بالمعتقل.
المعتقل؟ !… ها أنت تذكرني بالنهايات… قلت إننا تركنا الأشياء المؤلمة كلها هناك… زمن السقوط… و القصف… و الموت و المعتقل… و كل النهايات… قلتَ بأننا سنحيا البداية وحدها هنا مع كل الأحبة… مع كل الذين رحلوا فجأة و لم يودعونا… لم يتهيؤوا جيدا للسفر الأبّدي… لم يكتبوا حتى آخر مذكراتهم… سناء… هاني… أبوجهاد… أمك الحبلى… أخي عمار… صديقك… و آخرون شهداء القصف و الانتفاضة.
قاطعتني: هؤلاء لم يمروا من هنا.
ما عدتُ أفهمك… قلتُ بحيرة:
- لكنهم أموات… لا أحد أجدر منهم ببدايات جديدة.
اقتربتَ منّي… همستَ:
- الأحياء الموات فقط من يعبرون.
لم أقل شيئا بعد كلامك… عادت إلى ذاكرتي لحظة السقوط … تذكرت الآخرين، من يجرفهم السقوط بعيدا… ربما أخذهم إلى أرض أخرى حيث يتجمع كل الأموات… و ربما لا أرض تجمعهم… ربما مازالوا يسقطون.
كانت التساؤلات تتزاحم في رأسي… و حاولتَ أنتَ تبديد حيرتي… كررتَ عبارتك الأولى:
- انظري، صارت لنا أرض…و صارت لنا بداية.
3- العودة إلى زمن السقوط
الشمس و منذ مدة طويلة و هي تشرق كل صباح…لها بوصلة مضبوطة…الشرق شرق و الغرب غرب… أمّا أنَا و أنتَ فبنينا أشياء كثيرة…بنينا منزلا…و مزرعة…ومدرسة…و أشياء أخرى واسعة…
أنتَ و أنَا و منذ مدة طويلة أيضا كناّ سعداء جدا …لا غارة… لا قصف…لا شتات… لا منفى و لا معتقل…كنّا سعداء فعلا، لهذا دُهشتُ ذات مساء عندما رأيتك تبكي… ! و عندما سألتكَ لماذا تبكي و الشمس هنا في أرض البدايات مستقرة مضبوطة ؟ !…لماذا تبكي و قد صارت لنا أرض و بداية ابتدأناها منذ مدة طويلة ؟ !…عندها توقفتَ عن البكاء و قلتَ:
- لأجل البداية التي ستنتهي أبكي.
قلتُ: و ما أدراك أنها ستنتهي؟.
أجبتَ: انظري…زهورنا التي زرعناها بدأت تذبل…بناياتنا الواسعة بدأت تضيق…هذه الشمس هرمت، و غدا ستفقد ذاكرتها و تنسى الاتجاهات…انظري أرض البدايات الخضراء بدأت تصفر غدا ستتحول إلى أرض الأحلام السعيدة التي تنتهي على كابوس مرعب.
دبَّ الخوف في داخلي…قلتُ:
- لكنك قلتَ إنّ البداية لا تنتهي هنا…قلتَ إنّ البداية تعقبها بداية أخرى دائما.
فأجبتَ متحسرا:
- بدايتنا هناك…لماذا لم نكملها ؟…هي لم تنته بعد…لماذا بحثنا عن بداية أخرى؟.
قلتُ: لأن البداية هناك سقوط دائما !.
مسحتَ دموعك كمن انتبه لأشياء كثيرة مهمة… قلتَ:
- السقوط…زمن السقوط…بداية النهاية.
دوّى فجأة انفجار بعيد عنّا…لم أعره أنا أيّ اهتمام…أمّا أنت فسرى الذعر في نفسك، و ترجمته عيناك في نظرة خاطفة و سريعة على مساحة هذه الأرض كلّها.
دوّى انفجار آخر في مكان آخر…لم تنتظر هذه المرة…أخذتَ تركض و كنتَ تجرنّي من يدي…أمّا أنا فكنتُ أصرخ:
- لماذا نبحث عن البداية، و البدايات كلها هنا…هنا على هذه الأرض؟.
توقفتَ و قلتَ على عجل، و كنتَ تأمل أن أفهمكَ و أن أثق فيما ستقوله:
– الأرض الصلبة الحقيقية تركناها هناك…كنّا نسقط باتجاهها.
لم أفهمك…صرختُ في وجهك و ربما فعلت ذلك لأني لا أقوى على فهمك:
– و أرض البدايات هذه.
دوّت انفجارات أخرى بالقرب منّا…أمسكتني من جديد من يدي…قلتَ على عجل:
- هذه ليست سوى منطقة عبور.
و أخذتَ تركض من جديد…تركض و تركض…و الانفجار يزداد ذويّه و يقترب منّا… التفتُ لأرى…”آه ! يا إلهي… هذه الأرض تتآكل…تنهار…تسقط…تتلاشى…تنتهي”.
أخذتَ تسرع…أسرع…نسرع…نبحث عن الفُتحة العجيبة التي تسللنا منها إلى هذه الأرض…لم تكن هناك…و لا هنا…الجهات كلها مقفلة…و الأرض خلفنا أمتار قليلة و تلتهمنا معها.
صوت متألم…متألم جدا وصل إلى آذاننا:
- إنّي أسقط…أسقط…أسـ…
نظرتَ إليَّ…ارتسمت على محياك ملامح الفرح…قلتَ و كل شيء وراءنا يتهدم و يلغى:
- زمن السقوط قريب منّا.
ركضنا بسرعة تجاه الصوت…الأرض هذه المرة فعلا تكاد تجرفنا…صرختَ:
- اقفزي.
فعلنا ذلك معا…رأينا و نحن ندخل الفُتحة العجيبة كيف أنّ آخر شبر كنّا نقف عليه تآكل… و كيف أن المساحة كلها تحولت إلى زوبعة كبيرة… أغمضتُ عينيّ كي لا أشهد النهاية…كي لا أرى كيف أنّ البدايات تمّحي و تنتهي بسهولة…و عندما فتحت عينيّ !…أحسست بجدران أربعة تحيط بي… و كنت أسقط سقوطا حرّا مريبا…همستُ و لم أكن أقوى على الصراخ:
- إنّي أسقط.
تمتمتَ أنتَ، و كان صوتك منبعثا من الأسفل البعيد:
- لا تهتمي…تمة أرض صلبة !.
كان الظلام…و كان أن لمست قدماي الأرض أخيرا…أخذتُ أبحث عنك…أتحسس وجودك بيديّ…فاجأتني:
– أنا هنا…خلفك ! .
التفتُ إليك:
- أين نحن؟ !.
قلتَ:
- حيث ابتدأنا أنا و أنت و الأموات كلهم، و لم ننته .
كررتُ السؤال…و كنتُ متعبة لا أقوى على التفكير فيما قلتَهُ:
- أين نحن؟ !.
أجبتَ هذه المرة بكلام أكثر وضوحا…قلتَ:
- في جبّ عميق…ضيق…أو بالأحرى في معتقل من معتقلات أرضنا الصلبة و الحقيقية.