حي الزيتون – بقلم حسن رجب الفخراني مشاركة ضمن موسوعة “غزة كفاح وجراح”
لا تزال أوراق شجرة الزيتون تغرد، تلثم نسيم الفجر الوليد، تلهو كالصَبِيَّة صبيحة العيد، بين أحضانها بعض شباب حي الزيتون، يرسموا بدمائهم الأوجاع فوق جذعها السامق، أزيز طلقات البارود لا تزال تفوح من بين الأيادي المغتسلة من دماء الحرية المغتصبة.
منذ الأمس والعيون لم تغفل برهة، والجراح لم تجد من يضمدها، نزيف نهر الحق لا زال يتدفق بين ربوع تلك الدار التي تم اغتصابها عنوة وبمباركة باقي الجيرة أولاد العمومة.
: أرى أن جرحك يا زياد بحاجة لتطبيبه، تكاد تلتقط أنفاسك.
نظر زياد إلى محدثه ثم قال باسما وهو يكاد يختنق من الحروف المتكسرة التي يرد بها
: يا صديقي كلنا هذا الرجل.
بعض الطيور جاءت من خلف التلال، ومع انطلاق أزيز الطلقات سقطت مضرجة في دمائها، وبقي دمها كما هو، الرمال اكتفت بما ابتلعته قهرا من دماء طاهرة بريئة.
ألقت الشجرة بغتة بفروعها علي زياد ومن معه، تناهي لسمعه صوت رتل من الدبابات التي تجوب شتى الأرجاء بحثا عنهم.
امتزجت دمائهم وصرخة الوجع تحولت لابتسامة شامته على ما كبدوه من خسائر فادحة لهذا الوزغ المقيت.
حي الزيتون لم ينس نهر الدماء الذي جرف بعنجهية وذل مقيت كل بيوته، تلاقت النظرات الحزينة، نبض الافئدة سهام تحمل ماض اليم وحاضر مرير، السرب ببطء مقيت يغربل الرمال بحثا عنهم، حتى اقترب منهم، ومر غير مبال بتلك الشجرة النابتة في قلب الصخر، الرمال الساخنة تفور وتهتز وتوشك أن تطلق لسانها هازئة مما تشاهده من عهر أولاد العمومة الذين لم يلقوا أدني اهتمام بجراحهم.
كل الأحياء لا تزال تشاهد التلفاز وتقيم الاعراس، غير مهتمة بالحداد الذي يلبس حي الزيتون، ابتلع الأفق الرتل، فبدأ زياد ومن معه في الفرار صوب الحي المتشح بالسواد، وإن كان نبأ المغامرة التي قاموا بها ليلا والتي صارت ملء السمع والأبصار في شتى أرجاء المعمورة ربما قد تكون لبنة في حائط الفرح الذي لا بد وأن يأتي يوما لصبح كيان يشار إليه بالبنان.
بعض الزيتون بدأ في السقوط.
والبعض الآخر لا زال متمسكا بغصنه.
نعيق الغربان يحوم في الافاق، والصحف السيارة تغطي جثث بلا ملامح
: سمعت انهم سوف يبيدوا هذا الحي إن لم يظهر زياد ومن معه.
هل يوما قد تتخلى أم عن بنيها، حتى لو أخطئوا فما الحال إن كان هؤلاء بررة لم يرضوا بالذل دليل، ولم يسلموا للقرود دهاليز الدرب.
: ديارنا ولن نتركها رضاء أو قهرا وليذهب هؤلاء الفجرة إلى الجحيم.
علي أطراف الحي الليلة سوف يقام عرس أحد اولادها، رغم الحزن كان لابد أن تنطلق زغرودة، حتى لو كانت مكتسية بالوجع.
الصبية في سعد وفرح ابتهاجا بهذا الحفل الميمون، وربما فرحا بعودة زياد واصحابه والذين ليلة الامس حين كان العالم جميعه نائما في الظلال الوارفة كانوا هم في قلب ساحة الغزاة ليزرعوا هنا لغم وآخر هناك وكأنه نبتا شيطانيا تكاثرت الألغام وكأنها أنغام على وقعها ترقص البسمات الحائرة والسنة النيران تنفجر من كل صوب وحدب والصرخات تتجلى فوق سمائهم كأنها سحب تائهة ضلت ركابها.
عروس الليلة تتجلى كالبدر في ليلة تمامه، الولائم تمتد وزياد متحاملا على جرحه جالسا على أحد المقاعد وبجانبه باقي الصحبة، ينحني العريس علي جبهته ويشبعها تلثيما غير آبه بالدماء التي لطخت ثياب العرس الأبيض.
أسفل حذائه ورقة عبارة عن نشرة من هؤلاء الأقزام تقدم كثيرا من الهبات لمن يدلي بأي معلومة عمن ارتكب هذا الفعل المجرم ضد الإنسانية , وبجانبه ورقة اخرى من ابناء الحي تنعي أبنائه الذين استشهدوا جراء القصف الماجن الفاجر من هؤلاء المرتزقة وصورة لقادة باقي الأحياء متذللة منحني ظهرها وهي تقدم فروض الولاء والطاعة ويتجرعون كؤوس الذل المعتق, شد انتباهه بيان بثه تلفاز عتيق من جامعة الأحياء المنبطحة و عمودها وقد انتفخت أوداجه بزهو كاذب و عنترية ليس لها ما يبررها , بل انه رغم كونه مثخن بالجراح لم يملك إلا أن يطلق ضحكة مجلجلة غطت على اغاني الفرح ومن فيه وهو يسمع هذا البيان الذي يشجب ويدين ما تم ارتكابه ضد هؤلاء الابرياء العزل كما أنه لا يؤيد ما قام به تلك المجموعة المارقة من احد الاحياء بإزهاق أرواح برية بلا جريرة.
خلف التلال لا تزال شجرة الزيتون باسمة وعلى جذعها كثيرا من أسماء الشهداء، كتبت بالدماء الطاهرة وبدمع الاطفال الابرياء
ودوي الانفجار مدويا.
وماتت الفرحة في عيون العروس.
وخمدت خفقات الطهر على مذابح الشجب والإدانة.
هذه الصفحة “الخاطرة النثرية” مخصصة للمشاركات والمساهمات الأدبية في موسوعة “غزة كفاح وجراح” الواردة إلى بيت فلسطين للثقافة
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=12067