كان طوفان الحب بينما هادئا بمشاعره الجياشة… متلاطما بصمت العشق… وأمواجه العاتيةٌ القويةُ… تعلو بمزيدٍ من الشوق والبعد في كل مرةٍ يذهب محمد في رحلة عمله الهندسي داخل غزة وخارجها…
بإنتظار موعد الزفاف
وفي كل مرة كانت تقف على طوفان قلبها المشتاق الخائف… تلوح له بوداعاتٍ على امل اللقاء القريب. تحضيرات العرس أكتملت… وحدد موعد الزفاف في السابع من تشرين الاول من العام 2024 .
وها قد بقي على الموعد أقل من شهر.. وبعض اللمسات الأنثوية في جهاز العروس لم تجهز بعد.
اذ قرر محمد ألا يتدخل بتفاصيلها… وأخبر عروسه قدس بأن تلك اللمسات خاصة بها… وأحب أن تكون مفاجاة تسر بها قلبه ونظره لاحقاً….
وقد اعتادت قدس أن تشتري أغراضها بوجود محمد لكن هذة المرة اختارتها بمساعدة امها …
قدس طبيبة متمرنة في مستشفى المعمداني… بدوام شبة كامل.. تعشق عملها…. كعشق الإنسان للخير وعشق محمد لها… ولطالما كان يحلم محمد بأن يكون مهندس أتصالات وقدس طبيبة الأطفال عروسه، وقد حققا حلمهما، ولا يزالان ينتظران تتويج طوفان حبهما في قفص ذهبي وتتم زفتهما, ويجتمع القلبان تحت سقف بيت الاستقرار والجدران المحصنة بثمار الحب. وأصوات مناغاة وبراءة اطفال … أحب محمد ان يكونوا شبه أمهم قدس اذ يرى الدنيا من بريق وبراءة عينيها.
وكالعادة وقبل ان تذهب قدس الى عملها يمر محمد أمام شرفه المنزل يلوح لها بيد الشوق ويغمزها غمزة تحمل كلمة سر بينهما «اليوم جاي اتعشاا عندكم» فترتبك قدس وتربك معها والديها في تجهيز العشاء… وكيف لا… وهي تريد ان تضع كل حلاوة العشق في هذا العشاء وتقول لمحمد دائما « هاد الاكل محضر بحب» فيضحك ويقول لها: « لو فيو سم انا رح أكلو من ايديكي الحلوين».
وبعد انتهاء قدس من دوام عملها، ذهبت مع والدتها الى السوق لتكمل شراء جهازها الخاص… و كلما اختارت قطعة تخيلت محمد و الابتسامة مرسومة على وجهه .
وعندالمساء وبعد أن أنهت قدس رحلة التسوق المرهقة… عادت الى منزلها لتجد محمد وقد أحضر معه طعاماً جاهزا معطرا بأريج الحب فقد أدرك أن تعب نهار طويل سيجعلها منهكة . فرحت قدس بوجوده والبريق يشع من عينيها , فأسرعت نحوه محاولة فتح أغراض جهازها كي تريه ما اشترت , لكنه اتجه بعزم نحو طاولة الطعام بحجة الجوع رافضا رؤية ما بحوزتها، ودعا من فوره الجميع للبدء بالطعام، فقد أحب أن يكون جهاز قدس مفاجأة ليوم الزفاف .
وما إن جلس الجميع على طاولة الطعام وإذ بهاتف محمد يرن … أجاب محمد وبدت على وجهه علامات الاستغراب .. أنهى المكاملة وأعتذر من الجميع منسحبا لعمل ضروري … إنها المرة الأولى التي يقطع فيها محمد تناوله طعام العشاء مع قدس وأهلها وخرج مسرعا. نظرت قدس الى عينيه وكأن بريق من الشوق المسبق قد اجتاحهما… وقفت قدس على الشرفة مودعة محمد كما العادة إلا إنه لم يستطع أن يشيح بنظره عن قدس يلوح بيده … يقف قليلا … يمشي قليلا ً…. ثم يعود مسرعاً و يصعد الشرفة قفزا فيحضنها يشده الى أعماق قلبه يقبل جبينها من ثم يقفز مسرعا ويركض من دون ان ينظر خلفه .
وكأن سهما من قلق وحرقة… خوف وتوتر, قد أشعلت صدرها، فان محمد قد ذهب في أمر خطير، توجهت الى غرفتها حضنت وسادتها التي تبللت بدموع الخوف والاشتياق الى ان غفت حتى انبلاج الفجر … وإذ بيد تمسح وجه قدس، فنهضت صارخة : محمد هل عدت؟! … واذ بها يد امها تحاول ايقاظها لتجهز نفسها وتذهب الى دوام عملها في المستشفى.
عملٌ وشوقٌ وشهادةٌ
كان يوم عمل عادي في مستشفى المعمداني … ولكن ما ليس عاديا تلك المحبة التي تغمر العمل في هذا المكان الذي يجمع فهو من الامكنة الوحيدة التي تجمع بين محبة عيسى وأخلاق محمد .
أنهت قدس عملها ومرت على محل فساتين الاعراس لتضع لمساتها الأخيرة وبعض التعديلات البسيطة على فستان عرسها .وبينما هي منشغلة بتلك اللمسات واذ بها تسمع صوتآ يهمس في أذنها :”بلا تعديلات … أحب بساطة هذا الفستان كما أحببت بساطت شخصيتك وبراءتها وذكائها … لم تحدث قدس أي تعديل
وعادت الى المنزل منتظرة عودة محمد الى العشاء…. فلم يتسنى لها مهاتفته خلال الدوام.
رن الهاتف … إنه محمد …. نعم حبيبي…. حبيبتي قدس أنا لن أت الى العشاء الليلة وانقطع الاتصال.
مرت الايام ومحمد غائب عن السمع… فعم شيء من الخوف وتلون قلب قدس واصبح جل همها ان يكون محمد سالما , فهي تعرف ان كل شاب وفتاة … وكل شيخ و سيدة … هم احياء على طريق الجهاد والمقاومة حتى الشهادة.. لم تعد قدس تهتم بموعد زفافها ولا بتلك التفاصيل و التحضيرات … تركت جهازها يغفو جانبا في زاوية الغرفة وغطته بشرشف ابيض معطر برائحة محمد .. ورشت عليه بعضا من الورود المجففة .
وفي صباح السابع من تشرين الاول, سمعت قدس قرع أجراس الكنيسة المعمدانية وأصوات التكبيرات من المآذن وزغاريد العاملين في المستشفى ,خرجت من غرفتها مسرعة واذا بالجميع على نداء واحد : النصر للمقاومة…” الله اكبر, انها العملية الاكبر والطعنة الكبرى في كبد العدو الصهيوني,النصرلنا” فأسرعت لتتابع الأخبار عبر التلفار واذ بأبي عبيدة يطل على شاشة التلفاز معلنا عن نجاح عملية طوفان الأقصى…
ابتسامة عريضة ارتسمت على وجه قدس.. استدركت من فورها أن غياب محمد مرتبط بهذه العملية, وبدأت ترسم في مخيلتها صورة ودور محمد كمهندس فعال وبطل شجاع يقوم بواجبه وبايمان وعزم حاملآ في قلبه راية الأقصى .
خطر ببال قدس تساؤل بسيط : هل نسيني محمد ؟! … واذ بغارات لطائرات العدو الصهيوني بدأت لتطال مختلف الأماكن المجاورة للمستشفى.
نهضت مسرعة تستقبل الشهداء والجرحى وتؤدي واجبها الجهادي في اسعافهم.
زفافٌ الى الجنة
مرت الايام وقدس داخل المستشفى تعمل بلا كلل ولا ملل بعزيمة فتاة غزاوية سمراء تنتظر خبرا عن محمد… وكلما احضروا جسد طاهر لشهيد ظنت انه محمد . لكن حتى مساء اليوم الذي حصلت فيه مجزرة مستشفى المعمداني لم تعرف خبرا عن محمد… والى ذاك المساء وامل قدس ما زال كبيرا برؤية محمد … تحلم ورغم كل ما حولها من دمار ودماء وألم وفقد بأن يعود محمد . واذ بصواريخ عنيفة تخترق مخيلة قدس وتصيب أحلامها أصابة خطيرة تحجب عنها امل اللقاء.. نعم انها الغارات الصهيونية التي دمرت المستشفى المعمداني وأصابت قدس بجروح خطيرة، حاول اصدقاؤها الاطباء اسعافها الا ان حالتها حرجة… وهي بتلك الحالة واذ بجسد محمد ملقآ بجانبها تسيل منه الدماء شهيدآ مبتسماً، وبيده ورقة بيضاء ملطخة وفي فأشارت اليها قدس، قام احد زملائها بإحضارها. فرمشت له بعينيها طالبة ان يقرأها.:
حبيبتي قدس… كحبي للقدس الشريف هو حبي لك..
عذرا لأنني غبت عنك ولم استطع مهاتفتك حتى ولم لبضع ثوان..
لكنني اعرف أنك قوية البصيرة وستعرفين انني في مهمة حب لفلسطين…
عذرا لم ات على موعد زفافنا… فاني على موعد لزفاف فلسطين الأبية .
صدقيني لم تغيبي عن بالي حتى في ذروة عملي الجهادي ..
أحبك … الى أن تعود القدس ويتحرر المسجد الأقصى …
وما أن انهى الطبيب قراءته للرسالة واذ بدمعة وحيدة من عين قدس تعلن انتقالها الى بارئها بجوار محمد وكل الشهداء…
وفي مراسم التشييع احضرت ام قدس جهازها وفستانها الابيض وبذة محمد ,ووضعتهم بجانب جسدهما الطاهر واقفة بين الجموع ..
الآن أعلن زفاف محمد وقدس عروسان على طريق القدس، وحبهما هو أقدس حب في زمن الطوفان