13 April, 2025

تماثيل – بقلم إيناس عادل مهنا

لقت الغيوم اللبيبةُ بأحمالٍ أثقلتها على أرض أهل العِزة، رمادٌ سرمديٌ اغتصبَ هِندامَ السماء انتفض رعدًا كصحوةِ الحياة،كان رابضاً يقبض بكفيه على قمقمه، شَخَصَ بعينيه وقد وافت المنيةُ ضحكاته منذ أيام وحوله كومةٌ من الرُكام، آنسهُ البرد الوحشي الذي ما عاد يشعرُ فيه، بردٌ كمرضٍ منسيٍ عُضال، نهض وتركَ القمقم على المقعد :-لعلكَ تجدُ رفيقًا آخر فأنا استنفذتُ أمانيَّ الثلاث.

وبعد انسلاخه عن تلك البقعةِ المنسية مِمَن حولها، تقدمت امرأةٌ رفقة بنتٍ اسمتها القضية،رنت القضيةُ تجاه القمقم وفركته ضاحكة: انظري أمي ها هنا قمقمٌ سحري، سأتمنى أمنية!

فركت القمقم في أمل،فانبثق دخانٌ كثيف وخرج المارد ثم رفع كفيه قائلاً جملته المعهودة:لبيكِ أمنياتُكِ مجابة.

فقالت القضية في حماس:- ما أطلبه فوقَ كنوز الدنيا.. أتمنى أن يتحد العرب.

-وأنا أتمنى أن يتحد العرب، لكنه حلمٌ فوق حدود صلاحياتي.

بان الانزعاجُ على وجهها فربت على كتفيها مواسيًا: اطلبي شيئًا آخر يا زهرة الوطن.

تعرت ألسنة اللهب من ثوب وداعتها واضطربت، وغادرَ المارد خوفاً حين ارتفعت أصواتُ الرصاص واغتالوا القضية،نالها الخُذلان حتى من المارد!، صرخت الأم وجثت وقد تهدج صوتها: -اغتالوا القضية! واغتالكم الصمت يا عرب! 

كان خلفها البشرُ كالتماثيل يشخصونَ بلا حراك، من يقرأ الجريدة، من يُمسك الهاتف ومن يحملُ الحقيبة، والقضية ُمرميةٌ على الأرض وقد أسكت المُحتلُ صوتها. توقفت الأم تجول بعينيها الدمار، الصمتُ يغلفُ المكان كرايةٌ  تُرفرفُ طافيةً على طبقٍ يفيضُ بركامٍ يتسربلُ ثوبَ الغضب، ابتعدت عن ابنتها تُناديهم، تحركُ أجسادهم فلم يستمع لتوسلاتها أحد.. إلا واحدٌ منهم رفع راية الاستنكار لما حصل!.

فجأةً ربت على كتفها أحدهم،كان صاحبُ القمقمِ واقفًا أمامها بشموخِ مُحاربٍ مُخضرم،كوفيةٌ تُغطي وجهه فلا يظهرُ خلفها سوى عينانِ بلونِ الحِداد،صامدتان صمودَ الدهر واثقتان وثوقَ التائبِ برحمة رب العباد، قال:

 –  اثبتي يا ابنة فلسطين ففي كُلّ شهيدٍ يرتقي ستُضاءُ نجمةٌ جديدةٌ في فضاء العالم..

 لذلك ازدادت نجومُ الكون، اعتدلت الأم تحملق فيه، حَاجِبَاِه معقودان وعيناه تحويان ألفُ نوعٍ من ألوانِ القهرِ والصمودِ والصراخِ الأبكم،حدثته وهي تشيرُ للحجارة: 

  • -تحتَ أنقاض كُلَّ منزل حُلمٌ مات، قنديلٌ خبت شُعلتهُ وأملٌ قد اغتيل.
  • أزاحَ  الكوفية عن وجهه و أطلق زفيرًا محشورًا بداخله ولم يبقى إلا الصمتُ طليقاً في العتمة،تجاوزت شمسُ الأمل حاجز الغيوم لتسقُطَ في موكبٍ من أشعتها عظيمٌ يَفُكّ أغلالَ الحياةِ وكأنهم أصبحوا فوق حَدّ المُعتدين،فوقَ حَدّ القصفِ والأغلالِ والسلاسل، رفعت الأم كفها الدامية واعتصرتها لتتساقط بضعُ قطراتٍ منها على القضية والدمعُ أنيقٌ في مقلتيها:

-وكأننا مزجنا فصيلًا جديدًا من الدماء البشريةِ لم يعرفها إنسانٌ على مرِّ التاريخِ،ما نزالُ نعيشُ على أرضٍ أنبتت دماء شهدائها أشجارًا عانقت حد السحاب،صرت أؤمنُ أن سَمَاءَنَا لا تمطر بل تبكي دموعَ شُهدائنا الذين رووا تُراب أرضنا.

ثم تطلعت فيه بعيونٍ كشجيراتِ الزيتونِ الغضة الندية، على الرغم من لينها الظاهر فوق التراب، إلا أنها داخِليًا قويةٌ راسخةً كرسوخِها، مُصرةٌ على الانتقامِ كإصرار المُحارب على جبهات القتال.أشارت نحو القمقم وحدثته: لنطلب من مارد القمقم أمنية غير أن يتحد العرب.

فارتفع صوته:- لا حاجة لأمنية، المعجزةُ تكمن فينا، لو دمروا منزلاً، سنبني عشرةً غيره،لو أزهقوا روحًا ستلدُ نسائنا جيلاً مُقاومًا، لو جردونا حقوقنا، لو كبلونا بالسلاسل سنبتكرُ أصنافًا من الحُرية خارجَ حدودِ تفكيرهم، الفجرُ ينبثق من عتمة المعاناة في ضحكاتِ النصر حتى ونحنُ مقيدون بأغلالهم الهشة،حتى وإن دُفِنت أشلاء أحبائنا تحت الأنقاض، فنحن اعتدنا أن نرتوي من أثداء أمهاتنا تركيبةَ الكِفاح من أبسطِ سلاحٍ كالحجر حتى أعظمِ سلاحٍ نتمسكِ به وهو الإيمان بالله والثقة بمقدرتنا، الرصاصُ لا يطلقهُ سوى محتل جبان، سنرفعُ صدورنا لاستقباله في ابتسامة وسنقاوم لأننا أبناءُ حقٍّ وأرضٍ وقضية، نحنُ رجالُ غزة، رجالُ أهلِ العِزة.

وانتهت المسرحية …
وأسدلت الستارة في صمتٍ امتد لدقائق استهجنها الممثلون فلم يصدر عن الجمهور صفقةٌ أو هتافٌ واحد! فخافوا الفشل بعد أن راهنوا على النجاح، رُفعت الستارة واكتسحت الإضاءةُ عتمة مقاعدِ الجمهور لتكتسحهم المفاجئة وتحط على وجوههم فاجعَةُ الصدمة! لم يكن على تلك الكراسي جمهورٌ من البشر بل مُجرد تماثيل! أدوا مسرحية تدربوا عليها شهورًا لتماثيل! عَبرَت الممثلةُ كالذاهلة الثلوج الصناعية التي غطت أرض المسرح وهبطت نحو التماثيل والدموع تسيل على وجنتيها وضحك الرجلُ خافيًا قهرًا لم يخالف في قهره ما يجري في الواقع على أرض وطنه، رأى الكاميرات مصوبةً ناحيتهم من كل اتجاه فالمسرحية الحقيقة قد بدأت للتو بعد صدمتهم ! جلست الطفلة التي أسموها القضية على الأرض في ذهول تتجرع خذلاناً جديداً.

رفعها بقضبتيه وشد من إزرها صائحاً بعِزة نفس:

– ما جرى لا يختلف ضمنيًا عن الواقع،أرضُنا مسلوبة، أشلاؤنا مبعثرة، والعالمُ كالتماثيل أو أشدُ قساوةً منها، شاهدونا كعرضٍ حيٍ لمسرحية. يامَن تروننا مِن وراءِ الشاشات، أتمنى أن تملأوا جيوبكم بأوجاعنا، النصرُ قادمٌ لا محالة وستكونون حينها كذلك خلفَ الكواليس في الظلامِ كما اعتدتم..

رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=13988

Font Resize