12 April, 2025

هكذا أحيا – بقلم محمد خلف

لم أكُن يومًا ممن يفكرونَ بالموتِ، عشتُ سنواتيَ السابقةَ متفائلًا محبًّا للحياةِ؛ برغمِ ما يحيطُ بي من دمارٍ، اعتدتُ الفقدَ الذي رافقني طوالَ الطريقِ كخِلٍّ وفيٍّ لا يفارقُ جانبي، ولم تَنكث رصاصاتُ العدوِ وقذائفُهُ بوعدِ انتزاعِ الأحبةِ من بين أذرعي، ولكنّي ظللتُ على حالي لم أتغيَّرْ، أنظرُ لكلِّ شيءٍ بابتسامةٍ، وأرى الشروقَ كلَّ صباحٍ، يحملُ نورُهُ الأملَ في غدٍ آتٍ بالحريةِ وإن طالَ انتظارُه.

أحملُ بندقيةً روسيةً عتيقةً في يدي، وأستندُ إلى جدارٍ مهدَّمٍ معطَّرٍ بدمِ أحدِ شهدائنا، أرقبُ الميركاڤا المغرورةَ تتقدمُ بثقةٍ، تختالُ بين طرقِ مدينتي الجميلةَ مهما أصابتها أيديهم، أنتظرُها حتى تقتربَ، أحملُ عبوةَ الفدائيِّ وأركضُ نحوَها، أُلصِقُ عُبوتي أسفلَ البرجِ وأحتمي بأطلالٍ وُلِدَت بينَها أجيالٌ وأحلامٌ وآمالٌ لسنواتٍ وسنواتٍ، ثمَّ وُئِدَت تحتَ أنقاضِها، يصيبُ أخي العبوةَ برصاصتِه فيطربني دويُّ الانفجارِ.

تغطيني المدينةُ المكلومةُ بجُدُرِها المهَدَّمةِ كأمٍّ حانيةٍ تخشى على طفلِها من بطشِ البردِ، تُدَثِّرُني اتقاءً لأعينٍ أذقناها الدمعَ والقهرَ أكثرَ من مئةِ يومٍ، تجمعني بأشقاءِ القضيةِ والإيمانِ بعد أن انتهينا من تلقينِهم حصةَ اليومِ لدرسِ القتالِ من أجلِ الوطنِ، لم يحصلْ أيٌّ منّا على شهادتِه اليوم، ولكنَّ الغدَ لناظرِه قريب.

يحتضنُنا النفقُ كأبٍ يشتاقُ لأبناءٍ فرَّقَهُ عنهم سفرٌ طويلٌ، يمنحُنا الدفءَ بلا حسابٍ، نتجمعُ حولَ القائدِ نعطيهُ تقريرَ اليومِ، نتلقى تعليماتِ الغدِ ونذهبُ كلٌّ في طريق.

أجلسُ على حشيةٍ مهترئةٍ، أمسكُ بين يديَّ كتابًا قديمًا أطالعُ صفحاتِهِ بشغفٍ ينقلُني لعالمِ كاتبِهِ الفرنسيِ الأثيرِ، لأقاتلَ بين شبابِ الحاجزِ لأجلِ التحريرِ، يتلقّى صديقي الصغيرُ جافروش رصاصةَ الغدرِ من چافيرِ بعد انكشافِ أمرِهُ في محاولةٍ يائسةٍ للهربِ، أذرُفُ الدمعَ حين تفارقُ الحياةَ إبونينَ وتنطفئُ الرُّوحُ في أعينِها اللامعةِ، أتبعُ القديسَ ڤالجانَ وهو يحملُ جسدَ ماريوسَ الفاقدِ للوعيِ من بين الجثثِ لينقلَهُ إلى برِّ الأمانِ، وأحاولُ خنقَ تناردييه حين يحاولُ مساومَتهُ، وأشاهدُ انتحارَ الضابطِ المفجوعِ في قيمٍ عاشَ بها وقُتِلَ لأجلِها، ليكتشفَ أنّها كانت محضَ هراءٍ، فيقررُ غسلَ آثامِهِ بمياهِ السينِ.

أُغلقُ الكتابَ وأحتضنُ بندقيتي، أضعُ رأسيَ على وسادتي الخشنةِ وأغمضُ عينيَّ، أزورُ في الحلمِ عالمًا انتصرَ فيهِ الثوارُ، لم تمت إيبونينُ واستكملت حياةً سعيدةً تستحقُها، كبرَ جافروش وأصبحَ أبًا يعلِّمُ أبناءَه معنى الحريةِ، ويقصُّ عليهِم قصصَ الثورةِ، ووطنًا عادَ وجهُه يتزينُ بالحريةِ، ويتحلَّى بأشجارِ الزَّيتونِ، يلتفُّ عنقُه بوشاحِ الأحرارِ، وينعمُ برخاءِ عهدٍ قديمٍ.

لم أكن يومًا ممَّن يفكِّرونَ في الموتِ رغمَ الفقدِ والوحشةِ واقترابِهِ الدَّائمِ منّي، رغمَ التحديقِ بعينيهِ كلَّ يومٍ وإزكامِ رائحتِهِ لأنفِي، لكنّي ألفتُ عطرَهُ وأحببتُهُ، وتمنَّيتُ أن أتعطَّرَ بِهِ شهيدًا في سبيلِ حرِّيَّةِ أرضِ أسلافي.

لم أكنْ أبدًا ممَّن يفكِّرونَ في الموتِ، إلّا بصفتِهِ طريقًا لمنحِ الحياةِ.

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12392

Font Resize