صرخةٌ مخنوقٌ صداها، مكتومةٌ أنفاسُها، لكنَّها فجَّرت شعلةً احترقَ بها كيانٌ كاملٌ وشارفَ على الزَّوالِ، ومتى كانَ الظُّلمُ والباطلُ بطلينِ في دوّامةِ الحياةِ التي كنهُها التقلباتُ وعشقُها ذاكَ التَّمسُّكُ المرضيُّ المتجبِّرُ، الذي لطالما كانت نهايتُهُ الضَّياعَ والشتات. قصَّةٌ ستكتبُ أحرفَها الناريةَ على أديمِ سماءِ الجهادِ، بدماءِ شهدائِها الذين قاوموا معاييرَ الإنسانيةِ المزدوجةِ، المشوَّهِ جوهرُها المنمقةِ بالشِّعاراتِ والأكاذيب.
فلتكن هذهِ الشعلةُ توطئةً لزوالِ الظَّلام، وتوهُّجِ الحياةِ بأنوارِ الايمانِ، التضحيةِ والثباتِ، فلعمري ما رأت أعينُنا في هذا العصرِ سوى الهوانِ، أو تكونُ هذهِ بدايةَ الخلاصِ من زمنِ الخضوعِ والخنوعِ، فعزَّةُ الإسلامِ ورجالِهِ باتت قصصًا يرويها التاريخُ على مسامعِنا، فيبكي الجنانُ وتتقطَّعُ شواعرُهُ من شدَّةِ تشوُّهِ وتكسُّرِ عزَّةِ المسلمينَ الذين باتوا مسلمين بالاسمِ فقط لا غير.
تفاصيلُ ملحميَّةٌ كتبتْها وتكتبُها سواعدُ من رحِمِ المعاناة والشقاء، أنفاسٌ لم تعرفْ حلاوةَ الحياةِ، عذرًا بل تشرَّبت عبقَ الإيمانِ وأدركت كنهَ الحياةِ الذي ما نزالُ عاجزينَ عن فقهِ جوهره.
أرواحٌ بريئةٌ، دماءٌ زكيَّةٌ، كانت سببًا في انقشاعِ الظَّلامِ وزوالِ أفيون تجذَّرَ في الأعماقِ وتفرَّعَ وتكاثرَ وسرطنَ جسدًا لسنواتٍ، في صمتِ وحضورِ العالَمِ الأصمِّ الأبكمِ، وما يزالُ يتخبَّطُ في محاولةٍ أخيرةٍ ملطَّخةٍ بدماءِ الأبرياءِ على البقاءِ، وما لا يدركُهُ المتواطئونَ أنَّ هذا العارَ لن يسمحَ لصاحبِهِ بالخلاص.
فاقَ هذا الكيان الإسرائيلي الوهميُّ التَّطفلَ والتعفنَ وحرقَ مراحلَهُ وعفنَ ويعفنُ الأرجاءَ بأفكارِهِ السَّامةِ الحقودةِ المختلةِ التي تحاربُ كلَّ فطرةٍ سليمةٍ في هذا العالم.
عندَما تكسرُ الإرادةُ قيودَ الظُّلمِ والطُّغيانِ، حينَما يدركُ المرءُ أنَّ لهُ الحقَّ الكاملَّ في التحررِ، تلكَ هي التوطئة الجديدة.
لم يتم احتلالُهم بل كانوا وما زالوا أحرارًا، بل نحنُ الذينَ نراقبُ من بعيدٍ في صمتٍ وخذلانٍ، نحنُ المستعبَدونَ لكنَّنا لا ندركُ ذلك لكونِنا مخدري الحواس، عاقلتُنا في غيابات الجب، محنطة تنتظرُ اكتشافَها وترميمَ بقاياها، لعلَّ وعسى تكون تلك توطئةً للتحررِ من قيودِ الخوفِ والخنوع، منذ متى يرضى المسلمُ لنفسِهِ الذُّلّ والهوان، آهِ يا أمةَ محمد ما لاقت بكم المذلة. عندما تكونُ قوةُ الإيمانِ طاغيةً لا ولن تستسلمَ الشُّعوب، ففي ظلِّ الهيجاءِ الكريهةِ الحالكةِ تنبثقُ أنوارُ الحرية، مع أن ما يحدثُ في فلسطينَ لم يكن يومًا حربًا بل استعمارًا وحشيًّا هدفُهُ الجوهريُّ الإبادة.
رحمَ اللهُ بطنَ الأمِّ الفلسطينيةِ التي أبت إلّا أن تعطيَ الحياةَ، وتقدِّمَ أرواحَ فلذاتِ أكبادِها الشُّهداءِ لعيون الأقصى، ما وهنت وما ضعفت، ففي شموخِها عزَّةُ الأرضِ الأمِّ وكرامتها، منها تمتصُّ المقاومةُ عبقَ الحياةِ وحبَّها رغم قساوةِ الحياة وضعف الامكانيات وحصار الأمم الفاسدة.
أهانت علينا أرواحُ إخوانِنا؟ أهكذا نتركُ إخوانَنا تفترسُ أجسامَهم صواريخُ وقنابلُ العدوِّ الطاغية التي لا تميِّزُ بينَ صغيرٍ ولا كبيرٍ، هجماتٌ شنيعةٌ محملةٌ بالحقدِ والتوحشِ والاعتلالِ النفسي الواضحةِ معالمُهُ، عندَما يصبحُ القتلُ من أجلِ القتلِ والإبادةِ، هنا، هنا بالذاتِ تحطَّمت الإنسانية، شُلَّت أطرافُها وتخدَّرت حواسها وتشيطنَ كيانُها، إنَّ لعنةَ تلكَ الدماءِ البريئةِ التي سُفِكت لم ولن تزولَ، وخيالاتُ تلكَ الأرواحِ الطَّاهرةِ التي دهستْها جنازيرُ ودباباتُ المحتلِّ ستظلُّ حاضرةً تذكِّرُ هذا العالمَ بشناعتِهِ وسوادِهِ. اللهمَّ قد خدَّرت أممُنا ضميرَها، ونحن عالقونَ في دوامةِ تأنيبِ الضَّميرِ والعجزِ عن التَّحرُّرِ من أغلالِ الانكسارِ والذلِّ وقيودِهِما، اللهمَّ لا تتركْنا فريسةً للنَّفسِ فإنَّ النَّفسَ لأمارةٌ بالسُّوءِ، ولا تجعلْنا ممَّن أعمت المادةُ كنهَهُ فأصبحَ عبدًا للهوانِ والذلِّ مدى الحياة.
تشبَّثوا بأرضِكم ولا تتركوها لمختلٍّ نرجسيٍّ يعتقدُ أنَّ هواجسَهُ وتخيلاتِهِ حقًّا هي حق، معَ أنَّهُ يدركُ في كنهِهِ أنَّها لم ولن تكونَ لهُ، و لو بقي عرقٌ واحدٌ ينبضُ بشرارةِ المقاومةِ والتحررِ، فالشُّعوبُ بسليقتِها وفطرتِها تهوى الحرية، والقيودُ وإنِ اشتدّت قبضتُها تأبى إلّا الانكسارَ والتبخرَ، فما وُلِدَ من فراغٍ لم تتمخَّض الأرضُ لإنجابِهِ سينمحي باختفاءِ هالاتِه وخدعه، فكنهُ الشيءِ أصلُهُ ولا جذورَ عميقةٌ لهم هناكَ، سيحصدونَ الأوهامَ في نهايةِ المطافِ وستعودُ الأرضُ لأصحابِها طالَ الزَّمانُ أو قصر، وهذهِ الملاحمُ التاريخيةُ خيرُ دليلٍ على قربِ زوالِ عصرِ الظَّلامِ، فتفاءلوا خيرًا فالبشائرُ قادمة.
وإن كانت ملامحُ حبِّنا لكم مشوهةً فيشهدُ اللهُ أنَّ أواصرَ الجنان تتقطَّعُ لحالِنا وليسِ لحالِكم، لصمتِنا وخضوعِنا أمام معاناتكم.
صرخاتٌ، آهاتٌ، وأنينٌ ممزوجٌ بألمِ قهرِ السنين، خياناتٌ من القريبِ قبلَ البعيدِ كانت كضربةِ خنجرٍ اخترقتِ القفصَ الصدريَّ وشلّت مشاعرَهُ، محارقُ، مجازرُ، رائحةُ دماءٍ زكيةٍ القلوبُ في كلِّ مكانٍ، هل تسامحُ تلكَ الأرواحُ الملائكيةُ مغتصبي حقِّ الحياة، هل تصفحُ عن الصَّمتِ الأخرسِ المتخاذلِ المتواطئ.
نعم نؤمنُ بالقضاءِ والقدر، لكن ما كانَ النفاقُ المستترُ وراءَ نقابِ الخوفِ والجبنِ عذرًا للتملُّصِ منَ المسؤوليةِ أمامَ التاريخ.
فالتاريخُ لا يرحمُ الخونةَ والمتراقصينَ على عذاباتِ الأرواحِ البريئةِ المتمسِّكةِ بأملِ التَّحرُّر.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=12448