استيقظتُ بعدَ فترةٍ لأجدَ نفسي تحتَ ركامِ بيتِنا؛ تخنقُني رائحةُ البارودِ، نفضتُ عن نفسي الغبارَ، أزلتُ الصخرةَ الكبيرةَ العالقةَ وخرجتُ، شعرتُ للحظةٍ أنّي رجلٌ خارقٌ، كيف أصبحتُ بهذهِ القوةِ لأزيلَ من فوقِ رأسي الرُّكامَ؟ كانت طائراتُ الاستطلاعِ تجوبُ المكانَ، كلُّ ما حولي مدمَّرٌ وكأنَّ قنبلةً ذريةً قد دمَّرت المربَّعَ الكامل، سياراتُ الإسعافُ تهرعُ لنقلِ الشهداءِ والمصابينَ؛ منهمُ الأشلاءُ ومنهم من فقد جزءًا من جسدِهِ، مسحتُ الدَّمَ من على جبيني شعرتُ ببعضِ الدوارِ صرتُ أتنقَّلُ بينَ الناسِ، صراخُهم، واستغاثاتُهم، بحثتُ عن أمّي وأبي لم أجدْهم، أسألُ لا أحدَ يجيبُ، كأنَّهم لا يرونَني أشعرُ بأنّي شفّافٌ!! مضيتُ حتّى وصلتُ المشفى لم تكن تبعدُ عن بيتِنا إلا قليلاً، أخذتُ أفتِّشُ عنها في قسمِ الطوارئِ والاستقبالِ حيثُ عشراتُ النَّاسِ في المستشفى بينَ أطفالٍ وشيوخٍ وشبابٍ، لا تستطيعُ أن تضعَ قدمَكَ في المكانِ، تتخبَّطُ بالجميع، رأيتُها جالسةً تبكي وتندبُ حظَّها من حرقةِ قلبِها، رأيتُ أبي بجانبِها على الأرضِ وقد أُصيبَ إصابةً حرجةً، قد وضعوهُ على النَّقالةِ التي يُحمَلُ بها المصابونَ، وقد وضعوا على سطحِ يدِهِ كنيولة موصولةً بمحلولٍ معلَّقٍ على الحائطِ بمسمارٍ صغير، ينتظرُ دورَهُ هو الآخرُ لدخولِ غرفةِ العمليات، مسكينةٌ هي أمّي، صابرةً ظلَّت تنتظرُني حتّى أبصرتُ النورَ بعدَ ثلاثةَ عشرَ عامًا، حيثُ أضأتُ حياتَها وأبي بعد سنواتٍ من الانتظارِ، حتَّى جاءتْها جارتُنا أم حسن لترتميَ أمّي في حضنِها، تلعنُ الحربَ وتشتمُ القادةَ والرُّؤساء، على مشاهدتهم لتلكَ المجازرِ وهذهِ الإبادةِ ولا يحركونَ ساكناً، فقد اعتادوا المشهد، حاولتُ أن أخفِّفَ عنها أخبرَها أنّي هنا بجانبِك ولكنّي لم أستطع، فأنا أحومُ حولَها روحاً، ولكنّي بالأصلِ ميتٌ، أخبرتْها أم حسن أنَّهم أخرجوني من تحتِ الرُّكامِ ووضعوني في الثلاجةِ، كيفَ لقلبٍ مثلَ هذا القلبِ أن يحتملَ كلَّ هذا الألمِ والقهرِ، يا لقلوبِ الأمَّهاتِ كيفَ يصبرنَ؟ أيُّ قوةٍ هذهِ وأيُّ صلابةٍ تتحدَّثونَ عنها أمامَ قوَّةِ وتحمُّلِ الأمّهات على الفقدان! نادت أم حسن على الممرضةِ، أخبرتْها أن تبقى بجانبِ أبي ريثما تذهبُ أمّي لتودِّعَ ابنَها، كانتِ الممرضةُ لطيفةً نظرت إلى أمي طمأنتْها بأنَّها لن تتركَهُ حتّى تعودَ، مضيتُ معهم حيثُ كانت أمّي تمشي بتثاقلٍ، عاجزةً عن الحركةِ بينَما تسندُها أم حسن، رأتني ممدداً على الأرضِ ملفوفاً بالكفنِ كُتِبَ عليه اسمي رائد سالم، بينما كان بجانبي شهيدٌ ولكنْ مجهولُ الهويةِ، كشفت أمي عنّي الغطاءَ قبَّلتْني؛ شعرتُ بدمعتِها عندَما نزلت على خدّي كانت دافئةً، تخبرُني بأنّي استعجلتُ الرَّحيلَ لم تفرحْ بي ولن ترى ذريتي بعدَ الآن، كانت تدعو بأن يكونَ يومَها قبلَ يومي؛ ولكنَّ القدرَ كانَ لهُ رأيٌ أخرُ، فقد اختبرَها في فلذةِ كبدها ووحيدِها، كانت آخرُ كلماتٍ سمعتُها وطمأنتْ قلبي هي أنَّها كانت راضيةً عنّي قبلَ مماتي، وقبلَ أن أذهبَ إلى حياتي الأخرى السرمدية، ولا أعلمُ إن كانَ أبي سيلحقُ بي أم لا لا ؟!
ولكن ما أرجوهُ هو أن يتمَّ علاجَهُ ويعودَ للحياةِ كي يبقى مع أمّي سنداً لها، كي يكملَ حياتَهُ معَها وألّا يختبرَها القدرُ باثنينِ، لأنَّ ذلكَ سيكونُ قاسياً جداً على قلبِها.. أعانَكما اللهُ على فقدي، أعلمُ أنَّ هذا اختبارٌ صعبٌ عليكم ولكنّي شفيعُكم يومَ القيامة.
رابط مختصر :https://palfcul.org/?p=14230