تتراصُّ منازلُ غزَّةَ الجميلةُ ومدارسُها ومساجدُها وكنائسُها مثلَ حبَّاتِ العقدِ المتشابكةِ، السَّماءُ زرقاءُ صافية، الشَّمسُ تغطّي الأرضَ بأشعَّتِها الدَّافئة، تلقي بظلالِها على المنازلِ والأشجارِ وأعمدةِ الكهرباء. العصافيرُ تحلِّقُ فوقَ المدينةِ. الشَّوارعُ تعجُّ بالمارَّةِ، التلاميذُ يحملونَ حقائبَهم المدرسيةَ، متَّجهونَ في صفوفٍ إلى مدارسِهم، الأمهاتُ يتجهنَ إلى سوقِ المدينةِ، المزارعونَ متَّجهونَ إلى مزارعِهم، العمّالُ تحرَّكوا إلى أشغالِهم، المحالُّ التجاريةُ تفتحُ أبوابَها، صوتُ القرآنِ الكريمِ ينبعثُ منَ المساجدِ، الترانيمُ تنبعثُ من الكنائس. الأولادُ يلعبونَ الكرةَ والبناتُ يتجمَّعنَ في حلقاتٍ يلعبنَ بالعرائس.
فجأةً سُمِعَ أزيزُ طائراتِ الأباتشي، فرَّتِ الطيورُ بعيدًا عنِ الأرضِ، اختفتِ الشَّمسُ خلفَ إحدى الغيومِ العملاقةِ، رفعَ الجميعُ رؤوسَهم نحوَ السَّماءِ، ليشاهدوا الطائراتِ الضخمةِ تقتربُ على أبعادٍ منخفضةٍ، تدورُ حولَ المدينةِ، فوقَ المنازلِ والمدارسِ والمستشفياتِ، حولَ المآذنِ وأبراجِ الكنائسِ. تركَ الأولادُ الكرةَ، تجمَّعوا كالقطط الصغيرة بجوارِ الحوائط.
شرعتِ الطائراتُ تضربُ طلقاتِها العشوائيةَ، تطلقُ صواريخَها على المدارسِ والمستشفياتِ ومحطَّاتِ الكهرباءِ والمياهِ والمصالحِ الحكوميةِ، ترحلُ بعيدًا تاركةً خلفَها حرائقَ مشتعلةً ينطلقُ منها دخانٌ كثيفٌ. بدأتِ الدَّباباتُ تجتاحُ المدينةَ؛ تضربُ بلا هوادةٍ، طلقاتُها تخترقُ الجدرانَ، تحاصرُ أحياءَ المدينةِ بقسوةٍ، هرولَ الأهالي إلى منازلِهم على أصواتِ مكبِّراتِ الصَّوتِ تعلنُ في غرور:
إخلاء.. أخلوا منازلكم، الدبابات” لن تتركا بيتا إلا وستدمر.
هبطت أعدادٌ غفيرةٌ من الرِّجالِ والنِّساءِ والأطفالِ من المنازلِ، وقفَ الجنودُ بجوارِ الدَّباباتِ يصطادونَهم كالعصافيرِ، حاولَ الأهالي الفرارَ بداخلِ الأزقةِ، تسمعُ حواراتِهم البائسةَ:
ـ هذهِ الجهةُ مغلقةٌ.. إلى الجهةِ الأخر.. دبابات أيضًا.. الموتُ يحاصرُنا من كلِّ مكان.
بدأَ تلاميذُ المدارسِ في الهرولةِ من فصولِهم، تركوا كتبَهم على الأرضِ، تجمَّعوا في فناءِ المدرسةِ، بينَما اجتاحتِ الدَّباباتُ أسوارَ المدرسةِ، دهستْهُ جنازيرُها الحديديةُ بقسوةٍ، اغتالتِ البراءةَ برصاصاتِ غدرِها. اقتحمَ الجنودُ شوارعَ المدينةِ، يفتِّشونَ المنازلَ والمحالَّ التجاريةَ، يعتقلونَ الشَّبابَ والرِّجالَ، يضعونَهم في عرباتٍ كبيرةٍ معصوبي العيون. احتلُّوا المباني العاليةَ، اتَّخذوها مواقعَ لاصطيادِ المدنيينَ في الشوارعِ، كلَّما مرَّ طيفُ إنسانٍ صبُّوا فوقَ رأسِهِ عشراتِ الطَّلقاتِ. دُكَّتِ المنازلُ، تهاوت فوقَ رؤوسِ أصحابِها. امتلأتِ الشوارعُ بالجثثِ والجرحى، انتشرت رائحةُ الغانغرينا، دُمِّرَت عرباتُ الإسعافِ لمنعِها من النزولِ إلى الشوارعِ لنقلِ المصابينَ، اقتحمَ الجنودُ المستشفياتِ للقبضِ على المصابينَ أو التخلصِ منهم. عادتِ الطائراتُ تحلِّقُ من جديدٍ، بعدَما تحوَّلت غزَّةُ إلى مدينةِ أشباحٍ، الحرائقُ مشتعلةٌ في كلِّ مكانٍ، رائحةُ الجثثِ تفوحُ من كلِّ مكانٍ. دارت الطائراتُ حولَ المدينةِ في رحلةٍ استكشافيةٍ لرصدِ ما حدثَ بعدَ الهجومِ. طافَ الجنودُ بمكبِّراتِ الصَّوتِ شوارعَ المدينةِ، يعلنونَ حظرَ التجوالِ وقطعَ الكهرباءِ والمياهِ. خرجَ الأهالي من منازلِهم المهدَّمةِ، من تحتِ الأنقاضِ، من المساجدِ والكنائسِ، من السياراتِ، من الجثثِ الملقاةِ على الأرصفةِ، الجنودُ في غايةِ الدهشةِ والانزعاج، ينظرونَ بعيونِهم الغبيةِ الوقحةِ لهؤلاءِ البشرِ، يصرخونَ فيهم.. أما زلْتُم على قيدِ الحياةِ؟ أما زلتم تتنفَّسونَ؟ ماذا نفعلُ بعدَ القتلِ والقصفِ والإبادة؟
ويأتي الرَّدُّ من عيونِ أهالي غزَّةَ: لن نموتَ حتّى تموتوا أو تخرجوا بلا رجعةٍ.
رابط مختصر :https://palfcul.org/?p=14224