6 February, 2025

“لم يبقَ أحد” – بقلم مريم اشريمط

هذا الصَّباحُ لا يشبهُ الأصباحَ الماضية؛ التي كانت تعبقُ برائحةِ القهوةِ، وأريجِ الياسمينِ، صوتِ العصافيرِ وهيَ تسبِّحُ بحمدِ اللهِ، تمايلِ أغصانِ الزَّيتونِ على لحنِ السَّلامِ، وسماعِ تلاوةِ القارئِ “عبد الباسط عبد الصمد” رحمةُ اللهِ عليه!

كما أن هاتِهِ الليلةَ لا نظيرَ لها من الليالي السابقة؛ لم تكن أقلَّ إثارةً وجنونًا وعدوانًا، غزَّةُ تحترقُ، ونحنُ كنّا داخلَها كالحطب!

رأينا السَّعيرَ رأيَ العينِ، فلم تُبقي ولم تذرْ شيئًا إلَّا أهلكتْهُ، لا شجرَ ولا بشرَ، السَّماءُ تمطرُ نارًا، والأرضُ غيرُ الأرض، ويكأنَّها القيامة!

خرجتُ من العمارةِ التي تقطنُ فيها عائلتي ركضًا برفقةِ ابن أخي عامر، بعدَ سقوطِ قذيفةٍ على مربَّعِنا السَّكني، أدَّت إلى انشقاقِ البناءِ، وأودت بحياةِ كثيرٍ من أحبَّائي منهم: أبي الذي كان يحاولُ حمايةَ أختي الصَّغيرةِ منَ السَّقفِ الذي كانَ يهوي على رؤوسِنا، فماتَ هو، وماتت حبَّةُ الفراولة، وفي الشقِّ الآخرِ توفِّيَت أمّي، ولمحتُ جدّي وهوَ يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ، لا أدري كيف نجونا؛ لكنَّ اللهَ آذنَ لنا بالنَّجاة!

توقَّفْنا عنِ الرَّكضِ بعدَ أنِ ابتعدْنا قليلًا عنِ المكانِ المشهود، واكتفينا بالمشيِ فقط، فالألمُ بلغَ منّا مبلغَهُ، كانَ هناكَ جرحٌ في رأسي، وكدماتٌ متفرِّقةٌ في أنحاءِ جسدي المهلهلِ، بينما كانت يدُ عامر اليمنى تنزفُ بغزارة.

على طولِ الطَّريقِ كنّا نشاهدُ جثثَ أعمامِنا، وزوجاتِهم، وأبنائِهم، وكأنَّنا نشاهدُ فيلمًا سينمائيًّا لا واقعًا مريبًا!

رائحةُ الموتِ تهبُّ من كلِّ صوبٍ، وصورُ الدَّمارِ لا تنتهي، الصَّوامعُ اعتنقت الترابَ، والبناياتُ سُوِّيت بالأرضِ، والأحياءُ مُحِيَت بالكامل!

على حينَ غرَّةٍ سألَني عامر بنبرةٍ منكسرةٍ: هل ماتَ الجميع؟!

نظرتُ إلى الغبارِ الذي يحيطُ بنا من كلِّ جانبٍ، وأمعنتُ النَّظرَ جيّدًا في خاتمِ فضَّة شابٍّ ملقى على الأرضِ بنصفِ جسدِهِ، والنصفُ الآخرُ مخلَّدٌ في جنَّةِ النَّعيم، لم أستطعْ رؤيةَ ملامحِهِ الملطَّخةِ بالدِّماءِ؛ لكنَّ اسمي المنقوشَ على خاتمِهِ “تقوى” كان كافيًا لمعرفةِ هُويَّتِهِ إنَّهُ “برهان” زوجي!

البارحةَ احتفلْنا بعقدِ زواجِنا، واليومَ أزفُّكَ معَ الخالدين!

لم يبقَ أحدٌ غيرَنا.

أجبتُهُ و”غيرنا” يمكنُ أن تُحذَفَ في أيِّ لحظةٍ، قد تضربُنا قذيفةٌ أخرى أو صاروخٌ، وربَّما نموتُ جوعًا أو عطشًا!

مرَّت أشهرٌ والحربُ سجالٌ بينَنا وبينَهم، لم نمت لكنَّنا أمواتٌ بطريقةٍ ما، وأحياءٌ بطريقةٍ أخرى!

اتَّخذْنا منَ المخيَّمِ ملجأً بعدَ اللهِ سبحانَهُ، ومنَ القرآنِ مؤنسًا، ومنَ الصَّبرِ سلاحًا قويًّا.

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12404

Font Resize