10 February, 2025

لا فناءَ لثائرٍ – بقلم شهد أحمد عبده الجهمي

الثامن من أكتوبر للعام ٢٠٢٣

كانَ يومًا لكن ليسَ كسائرِ الأيامِ، كانَ فجرًا لكن ذا ظلامٍ دامسٍ!

وعلى أرضٍ لا يختلفُ في حبِّها مؤمنَينِ اثنينِ، كانَ الأبُ يعملُ في البستانِ والأمُّ تطبخُ في البيتِ والأطفالُ في المدارسِ.

أما في المستشفياتِ فكانَ هناكَ مَنْ لا تسعهُ الأرضُ فرحًا لشفائِهِ وقربِ موعدِ خروجِهِ من دارِ الأسقامِ، ومنهم من كانَ يرتقبُ الموتَ على فراشٍ أشبهَ بالقبرِ، كانت أسواقُ غزَّةَ تكتظُّ بعرائسَ تبتاعُ فساتينَ زفافِها، وفيها أمٌّ تشتري زينةً وجهازًا لاستقبالِ ابنِها الغائبِ. وفي أقصى هازاتو (غزة) كانت الأمُّ تضعُ أولَ فرحةٍ لها تضعُ بِكرَها، وأمَّا الأبُ فمنشغلٌ في اختيارِ الاسمِ، وما توصلَ إليهِ في النهايةِ هوَ اسمُ “جمال”.

بعدَ أنَّ حلَّ ظلامُ الليلِ وعادَ الغزّاويونَ إلى مساكنِهم؛ ليناموا الثلثَ الأولَ من الليلِ ثمَّ يُقومونَ بالصَّلاةِ والقرآنِ الثُلثَ الأخيرَ منَ الليل، فلَّ السّحرُ بما يحملُهُ من سكونٍ، ومعَ حلولِ الفجرِ اقتربت طفلةٌ بيديها العطوفتينِ لتمسحَ النَّدى من على النافذةِ، فليلةُ الأمسِ كانت غزيرةً ممطرةً، وفجأةً في لحظةٍ ما، دوَّى في السَّماءِ ضجيجٌ مرعبٌ مألوفٌ عندَ أهلِ هذهِ البلاد!!

وبالرغمِ من ذلكَ لا أحدَ يقبلُ أن يستوعبَ دلالةَ هذا الضجيجِ الذَّاهبِ بالأسماعِ… ما هيَ إلّا برهةٌ حتّى تبدَّلَ الحالُ إلى حالٍ!!

فالسَّماءُ التي كانت بالأمسِ تنهمرُ مطرًا، ها هيَ الآنَ لا يُرى فيها سوى دخانٍ كثيفٍ حجبَ ضوءَ الفجرِ وبدَّلَ النُّورَ بالظَّلامِ!

صواريخُ بدلَ المطرِ، على النَّافذةِ دمٌ ولم يعد النَّدى!

على خطواتٍ من المنزلِ تطايرت أشلاءُ ودماءُ ذلكَ الغائبِ الذي لم تنمْ والدتُهُ تلهُّفًا لرؤيتِهِ، ذلكَ السُّوقُ الذي كان يكتظُّ بالباعةِ باتَ ينفجرُ من شدَّةِ ازدحامِهِ بالجُثث!

بستانُ الوالدِ أصبحت النارُ تأكلُهُ، بعدَما كانَ فاكهةً تُؤكلُ، أمّا عن تلكَ العروسةِ فعندَما أتى المسعفونَ لم يجدوا سوى فستانِ العُرسِ ليكونَ كفناً لها!

والأمُّ التي ولدت بالأمسِ ولداً أسماه أبوهُ جمالًا، لم يعد فيهِ ملامحُ للجمالِ فالأسلحةُ المحرَّمةُ شرعيًّا وإنسانيًّا قد نثرت أعضاءَهُ وجعلتهُ كالرَّميم!!

ماذا حلَّ بالمستشفى؟

قُتل فيهِ المريضُ والطَّبيبُ والمسعفُ والمرافق!

صوتٌ شحيحٌ ينادي من أقصى المستشفى الذي لم تعدْ لتعرفَ بدايتَهُ من نهايتِهِ… ينادي أن أجروا العملياتِ في الطرقاتِ ودونَ تخدير، فيه قُتِلَ من كانَ قد شُفِيَ ويرتقبُ عودتَهُ إلى حضنِ عائلتِهِ، في المستشفى قد سلبَ الأعداءُ روحَ طفلٍ ممسكٍ بسندويتشٍ كانَ والداهُ يحاولانِ إقناعَهُ بأن يأكلَ ليتعافى ويذهبَ إلى المدرسةِ، لم يكونوا ليعلموا أن بعد هذهِ الإبادةِ لم يتبقَّ مدرسةٌ ولا معلمٌ ولا طالبٌ ليتعلَّم.

سوادٌ على سوادٍ… في غزَّةَ فقط لا يُباعُ الآيس كريم؛ لأنَّ ثلاجتَهُ أصبحت ثلاجةً للقتلى.

في غزَّةَ فقط تُصنَعُ الرُّجولةُ وتُدرَّسُ الأخلاقُ والوحدةُ والأخوةِ، من مساجدِ هذهِ الأرضِ المقدَّسةِ نبعَ الفرسانُ الشجعانُ، في غزَّةَ ترى الرجالَ تحملُ على أكتافِها سلاحًا وبيدِها قلمًا، مِن أصلابِ حُماتِها قد شبَّ جيلٌ يعشقُ الشَّهادةَ والسِّلاحَ، جيلٌ يسعى جاهدًا للنَّصرِ والشَّهادةِ، أشبالٌ تعزفُ أن لا فناءَ لثائرٍ مهما تحاول.

وصدقَ عزَّ وجلَّ القائل:

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12846

Font Resize