7 December, 2024

كم أحبُّكَ يا أبي! – بقلم محمد سليمان الخوالدة

سيحينُ وقتُ أذان المغربِ وأبي لم يحضرْ، يا إلهي أبي أبي!.
ها هو ستارُ الخيمةِ يُكشفُ، كم فرحتْ فتون برجوعِ أبيها إليها، ففي كلِّ مرَّةٍ يعودُ هو كعودةِ الحياةِ لها، لقد تأخرتَ كثيرًا يا أبي، لقد أعددتُ طعامَ الإفطارِ، كنتُ سأبقى في الصِّيامِ لحينِ عودتِك.
فرحَ الأبُ أيضًا برجوعِهِ سالمًا، فلقد انتهتِ الحربُ منذُ عام، وبقيتْ بعضُ ندوبِ وجروحِ الحربِ هنا وهناك، ونقاطُ تفتيشٍ في كلِّ زاويةٍ، وقصفٌ عشوائيٌّ بينَ الحينِ والآخر، وحجوزاتٌ في كلِّ يومٍ، إنَّها الحربُ اللعينةُ.
قامت فتون بعملِ إبريقِ شايٍ ساخنٍ، إنَّهُ لكَ يا أبي هديةُ رجوعِكَ سالمًا، اندهشَ الأبُ ومن أينَ حصلتِ على السُّكّرِ يا ابنتي؟ فلا يوجدُ أحدٌ عندَهُ السكرُ فهوُ مفقودٌ منذُ شهرٍ، قالت لهُ أخفضْ صوتَكَ يا أبي، لقد ادخرتُهُ منَ الأشهرِ السَّابقةِ، كانت كأسُ الشَّايِ بمنزلةِ احتفالٍ برجوعِ الأبِ سالمًا منذُ يومينِ.
وأنا يا ابنتي عندي لكِ مفاجأةٌ عظيمةٌ، أخفيتُها عنكَ منذُ عامٍ ولم أحصلْ عليها إلَّا اليوم.
ما هي ما هي يا أبي؟ قالتْها فتون وهي تسرقُ الفرحَ من ثغرِ الحربِ ومن فمِ الجوع.
لا لن أقولَها لكِ حتّى ننهي شربَ الشَّايِ السَّاخنِ الذي أعددتِهِ لنا في هذا الجوِّ الباردِ.
يرتشفُ الأبُ من كأسِ الشَّايِ ويقول بنبرةِ حزنٍ: اللهُ يا فتون كانت أمُّكِ رحمَها اللهُ تعدُّ نفسَ طعمِ الشَّايِ هذا؛ لقد ورثتِ منها دقَّةَ وضعِ السُّكّرِ يا ابنتي.
تقولُ فتون ممازحةً ومهدِّئةً لكلماتِ أبيها: كلُّنا راحلونَ يا أبي عن هذهِ الدُّنيا ولن يبقى منا أحد.
قالَ الأبُ: صحيحٌ يا ابنتي ولكن في القلبِ حزنٌ ووجدٌ على من فقدناهم يعتصرُ قلوبَنا بينَ كلِّ فينة وفينة.
هيّا يا أبي لمَ لا تقولُ لي ماذا أحضرتَ لي؟ وما هوَ هذا الشَّيءُ الذي منذ عامٍ وأنتَ تذهبُ إلى مراكزِ المساعداتِ تبحثُ عنهُ؟ هيّا يا أبي أهو مهمٌّ لهذهِ الدَّرجة؟
كانت فتون فتاةً متفوِّقةً علميًّا شديدةَ الذَّكاءِ تحبُّ الحياةَ، تصنعُ منَ الحزنِ بقايا فرحٍ، تبعثُ في النَّفسِ العزيمةَ والإصرارَ على الحياة.
حسنا حسنا يا ابنتي! ولكن هل بقيَ عندَكِ من هذا الشَّايِ اللذيذِ وهل يا تُرى بقيَ لغدٍ شيءٌ من السكر؟.
لا تخف يا أبي هناكَ ما يكفي ليومينِ أو ثلاثةٍ لقد أعطتني جارتُنا في المخيَّم كيسًا فيهِ بعضُ السُّكرِ، وجدتْ في بقايا منزلِها كيسًا هناكَ، ضحكَ الأبُ متأمِّلًا كلَّ ما حدثَ وكيفَ كانوا يعيشونَ في بيوتِهم فرحينَ مطمئنينَ ولم تكن قضيةٌ مثلَ قليلٍ منَ السكر تشغلُ بالَهم أو تكن حديثَ سمرِهم ومهمةً لهذا الحد.
لقد حصلتُ على الموافقةِ من مركزِ المساعداتِ؛ وسيُكشَفُ عليكِ غدًا إن شاءَ اللهُ ليعطوكِ طرفًا صناعيًّا.
ماذا تقول؟ قالتها فتون بلهفةٍ يشوبُها الحزنُ والقهرُ، هل هذا صحيح؟
كم أحبكك يا أبي! فمنذ عامٍ وأنتَ تذهبُ في الأسبوعِ مرَّتينِ تطالبُ بطرفٍ صناعيٍّ لي، كم أنتَ عظيمٌ يا أبي! قالتها بنتُ العاشرةِ وكانَ كلامُها يمزِّقُ قلبَ أبيها، فلقد فقدتْ يدَها اليُسرى أثناءَ الحربِ، وفقدتْ أمَّها وأخويها كذلك.
فكانَ يبحثُ عن أيِّ شيءٍ يبعثُ في نفسِها البهجةَ، ويساعدُها على الاستمرار في حياتها.
إنَّ لعنةَ الحروبِ تلاحقُ النَّاسَ في حياتِهم، وتحفرُ في قلوبِهم ندوبًا ومآسيًا لا تندمل.
ففي كلِّ بيتٍ في غزَّةَ هناكَ آهاتٌ تخرجُ من كلِّ خيمةٍ تعانقُ السَّماء، وتشكو لخالقِها ظلمَ البشرِ وظلمَ الإنسانِ لأخيهِ الإنسان، فالعدالةُ في السَّماءِ والظُّلمُ في الأرض.
فتون موجودة ٌفي كلِّ مكانٍ حولَنا، وفي أنفسِنا التي تعبت من ويلاتِ الحروبِ، فإلى متى ستبقى البشرية تدفعُ حياتَها مقابلَ الجهلِ والظُّلم؟

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12398

Font Resize