في الفجرِ يصيحُ الديكُ بلغةِ الرسائلِ، وتتفتّحُ أعينُ القراءةِ خوفًا فوقَ حروفِ الهذيانِ، تتحسّسُ أمّي عَتمةَ الوضوءِ؛ ونحنُ خلفَها نصطفُّ في طابورِ انتظارِ أن تُفتحَ أبوابُ السماءِ، وفجأةً تدكُّ المدافعُ مهاجعَ قلوبِنا وتقصفُ حصونَ الصلاةِ، يُكمّمُ الخوفُ صمتَنا المغمورَ بالترابِ، ننفضُ عن أنفاسِنا سوادَ الغبارِ، نتفقَّدُ الأسماءَ والأجسادَ، أطفالُنا متجمَّدونَ من هولِ الركامِ، تطايرتِ النوافذُ وبعضُ الجدرانِ، وما زالت أمّي في محرابِ الصلاةِ ساجدةً تناجي اللهَ الخلاص!
هكذا كانَ بزوغُ فجرِ نزوحِنا إلى “رفح” مدينةِ التحدي والصمودِ، حيثُ ازدحامُ الباحثينَ عن بقعةِ أمانٍ، الحربُ ما زالت كفوّهةِ بركانٍ تزدادُ نفورًا يومًا بعدَ يومٍ، ويفورُ قاعُ الجَزَعِ مع كلِّ قذيفةٍ تتساقطُ فوقَ رؤوسِ المباني والأجساد.
الطائراتُ لا تنحني من ثقلِ القنابلِ؛ ولكنَّها تُغِيرُ كالجوارح تخدشُ أرواحَنا وتمزّقُ ما تبقّى من رسائلَ للحياةِ، تعبثُ بنا كأنَّنا فريسةُ الأرضِ للسَّماءِ، كأنَّنا لا نستحقُّ البقاءَ.
كنّا نقطنُ في مخيَّمِ “الانتفاضة” قبلَ النزوحِ بالرَّصاصِ، كانت قلوبُنا تتشقَّقُ من تصدِّعِ المباني وتلاطمِ الجدران!
“جباليا” التي لطالما كسرت أنفَ الأعداءِ، تُغمَسُ بيوتُها في الترابِ!! تتحرَّكُ الدباباتُ في الأزقةِ والحارات، وتغيّرُ الانفجاراتُ شكلَ المخيَّمِ الذي كان يضيقُ اِلتصاقًا وأصبحَ يتّسعُ دمارًا.
ما زالت المدافعُ تعصرُ المدينةَ، وانفجاراتُ القنابلِ تخنقُ أصواتَ الشوارعِ، قتلوا الأرصفةَ والطرقات، سفكوا دماءَ الذكريات.
الشوارعُ تئنُّ ليلًا من صدى الفراغِ المحمَّلِ بالغبارِ، وصوتُ النارِ يلتفُّ حزامًا كالسوطِ يجلدُ ظهرَ الصابرينَ أملًا بالنجاةِ، النهارُ أفرغَ المشاهدَ من الآملينَ بالحياةِ، الباحثينَ عن مسافةِ أمان.
ضاقتْ بنا عقاربُ الاحتمالِ، صوتُ صفيرِ القذائفِ يجذبُ مسامعَ العابرينَ ويدوّي في الأذهانِ هربًا يصطادُه حُكمُ الأقدارِ، تشتعلُ الحرائقُ ويُخطَفُ بصرُ العاضّينَ على أناملِ الضوءِ، الباحثينَ عن منفذٍ للفرارِ، سنحزمُ ما نستطيعُ من ملابسَ وأوراقٍ، ونهتمُّ بجمعِ صورِ الماضي، ولا نعلمُ لماذا لم نهتم بتصويرِ جدرانِ البيتِ، ولم نوثِّقْ كيفَ اصطفّت الحجارةُ وارتفعت الأعمدةُ التي كانت تحملُ لنا سقفَ ترقُّبِنا، لم ندوّنِ الدفءَ الذي حظينا بهِ لسنواتٍ، تركنا ما كنا نخططُ لهُ من أمنياتٍ وغادرْنا ملوّحينَ لما بقي من جدران!.
– أفرغْ حقائبَ العلمِ يا بنيّ، القنابلُ تجهلُ لغةَ الرسائلِ فلن تقرأَ الطائراتُ أنَّنا نحبُّ الحياةَ! وأننا على هذه الأرضِ منذُ وُلِدَ كنعان.
-إلى أينَ يا أبي؟
-إلى حروفِ الوطنِ يا بنيّ، نُهَجّي فاءَ الفواجعِ في غزة، ولامَ من لجّم تجبّرَ الأعداءِ، وسينَ الساهرينَ على ثغورِ الانتصار.
اِعلموا جميعًا أنَّ الطاءَ طينُ البلادِ، والياءَ مدُّ نشيدٍ تغنّى بالصابرينَ فوقَ الرمادِ، ودعونا نُهَجّي معًا نونَ النزوحِ، فهو يبدأُ وينتهي في فلسطينَ بلادِ التينِ والزيتونِ، بلادِ العربِ والأمجاد.
في المدارسِ اختلطَ الحابلُ بالنابلِ، الحروفُ ماء، الأرقامُ دواء، الشهاداتُ إيواء، حتى المعلمونَ رجالُ إصلاح.
لم يعد هناكَ طوابيرُ نشيدٍ وعَلَمٌ يُرفرفُ كلَّ صباحٍ، فقط مذياعٌ في كلِّ خيمةٍ يعلنُ استمرارَ الحربِ، كلَّما اصطفّت الأمنياتُ في انتظارِ هدنةٍ أمطرت علينا أملًا في انتهاءِ موجةِ الخراب.
اكتظاظُ الخيامِ لم يمنحْ أجسادَنا الباردةَ الدفءَ في فصلِ الشتاءِ، لم يُؤنَسْ خوفُنا كلَّما سمعنا صوت جنزرة الدبابات، الاكتظاظُ جعلنا كالمرايا نبحثُ داخلَها عن ملامحِنا القديمةِ، وكيف تغيّرت أشكالُ الإنسانيةِ فينا وصفاتُنا الأصيلةُ، وكيف تحوّرت أطباعنُا وأصبحْنا نتجاهلُ الكثيرَ ونعتقدُ أننا على صوابٍ، نعتقدُ أنَّنا نستمرُّ في الحياةِ، وفي الحقيقةِ كنّا نعتادُ المعيشةَ ونُطيلُ في الصبرِ على أملِ أن يتبدَّلَ الحالُ وتتغيرَ الأحوال.
حاصروا الحصارَ بالقنابل، اقتحموا حُرمةَ المدارسِ، استباحوا سقوطَ المآذنِ، أخرسوا أجراسَ الكنائس، مسحوا المعالمَ والآثارَ، شرّدوا مراكزَ الإيواءِ، زرعوا الألغامَ في الحناجرِ، فجّروا السِمانَ العِجاف، انتقلنا من مكانٍ إلى مكانٍ وكأنَّ النُّزوحَ لا يستقرُّ ولا ينام!
نزحنا والطائراتُ تحلِّقُ فوقَ رؤوسِنا، استطعنا بعد طولِ عناءٍ الوصولَ إليكَ يا صديقي؛ فلا تسألني عن فجوةِ القهرِ في مديحِ الصباحِ، ولا تستغربْ من حجرٍ سدَّ فجوةَ القبرِ لكلِّ من سكنَ الشوارعَ والأحياء، ولا ترتِّبْ معي ما تبعثرَ من صورٍ لمن فقدنا من أصدقاء، نحن النازحونَ من مشارقِ الشمالِ، العابرونَ فوقَ أحبالِ النجاةِ، افتحْ لنا أبوابَ الجنوبِ ونافذةً من قلبِكَ تُنسّمُ علينا قليلًا علّها تقرُّ أعينًنا فننام.
يا صديقي جنوبُنا شمالٌ، شمالُنا جنوبٌ، وفي غزَّةَ الكرمُ والعِزَّةُ لا يُقصفان.
مشينا في أروقةِ المدينةِ معًا، نبحثُ بين ضرباتِ المدافعِ عن مستلزماتِ الحياةِ، نصطفُّ في طابورِ الخبزِ قبلَ شقشقةِ النهار، ونحاورُ الوقتَ وندلِّلُ الانتظار، نفكرُ بصوتٍ مرتفعٍ بآليةِ الحصولِ على الطحينِ وطرقِ الحصولِ على الماء، وكيفَ نواجهُ هذا الغلاءَ في الأسعارِ، وهذا النقصَ في المتطلبات…
يقطعُ حوارَنا حديثٌ دارَ بينَ طفلين…
سمعناهُ يقولُ: ماتت أمّي وماتَ أبي وما زالَ إخوتي تحتَ أنقاضِ البيت.
– يسأله متعجبًا: ولماذا تقفُ في طابورِ الخبزِ؟! من ستطعمُ بعدَهم؟!
يُجيبُهُ كأنَّهُ يقولُ أنَّهُ سيطعمُ الركامَ والدمارَ، علَّهُ يستحي ويتركُ لهُ أحدَ إخوتِهِ أو صورةً كانت على الحائطِ تجمعُهُ بهم، وكم من عائلةٍ تركت وريثًا على الأرضِ ورحلت إلى السماءِ، كم من وريثٍ دعا ربَّهُ أن يُورثَهُ اللقاءَ بمن رحلوا، وكم من أبٍ عانقَ موتَ ابنتِهِ وغازلَها (يا روح يا روح)، كم من طبيبٍ تفقّدَ المرضى وكشفَ عن جرحٍ في قلبِهِ حينَ اكتشفَ أنَّهُ أحدُ أقاربِهِ، كم من يوسفَ شعرُهُ (كيرلي) ضاعَ في غياباتِ الفقدِ ولم تسعفْهُ الأحلامُ، وكم من فتاةٍ اسمها مريم، قُصفت وماتَ معَها فريقُ الإنقاذِ، كم من صحفيٍّ نشرَ خبرًا لاستشهادِ زوجتِهِ والأبناء، كم من مسعفٍ لم يستطعْ إسعافَ نفسِهِ وابتلعتْهُ أفواهُ الانفجارات!!
وحدَها السَّماءُ من تستحي حينَ نصبحُ أكبرَ من حجمِ القنابلِ، ونطعمُها بأكفِّ الدعاءِ أن تعيدَ لنا من رحلوا دونَ وداعٍ، ولكنّها لن تردَّ لنا مَن ذاقَ مِن حلاوة النهرِ وشربَ من لبنِ الجنان، لن تعيدَ لأحلامِنا ما أخذتْهُ الأقدار.
انظرْ يا صديقي كيفً تكشِّرُ الجرافةُ عن أنيابِ مِشطها؛ تريدُ فردَ خصلِ الحديدِ وفتحَ ممراتٍ للضوءِ، علّها تُطلقُ سراحَ أنفاسِ الناجينَ من ظلماتِ الرُّكام.
سلْ يا صديقي رغيفَ خبزٍ تعفّنَ على أروقةِ الطرقاتِ؛ مَن خبّأَ حُمرةَ وجهِهِ والأطفالُ يموتونُ جوعًا وخجلًا من عجزِ الأمَّهاتِ!! سلْ أولئكَ الذين يرفعونَ شعاراتِ الإنسانِ، كيف تصمتُ إنسانيتهم عن قتلِ البراءةِ واستباحةِ قتلِ الأطفال.
انظرْ إلى هذا الرجلِ يحملُ من الزَّاِد ما يحملُ، ويسيرُ على رصيفِ احتمالِهِ، يتمايلُ تعبًا من وزنِ أعباءِ الانتظارِ، تقطعُ طريقَهُ امرأةٌ يبدو عليها الفقرُ وسوءُ الحالِ وتطلبُ منه أن يَسكبَ لها بعضًا من قوتِ صبرِهِ، فيدلو بدلوِهِ لها، ويعودُ لطابورِ البحثِ عن سدِّ رمقِ السَّاعاتِ القادمةِ، ألسنا بخير؟
وتلكَ السيدةُ يا صديقي تابعْ خطاها وكيفَ تنحني لحملِ أكياسٍ من العروبةِ الكاذبةِ، وتتثاقلُ مشيًا على رموشِ الرجالِ، لم يبقَ فينا مَن يحملُ عنها وقد أرهقت الحربُ أقدامَ الرجولةِ وأكلَ العجزُ من رأس الحياء.
وهذهِ المرأةُ الشاحبُ وجهُها، وقد فاحَ عطرُ النَّارِ من ردائِها حينَ مررنا عنها، من يسترُ عورتَها وقد نزعت حجابَ وجهِها لتسترَ إرضاعَ طفلِها الباكي!!
من يقنعُ بائعَ الوردِ بأنَّها تستحقُّ بساتينَ العطرِ هديةَ كلِّ الأعياد.
ما زلنا نسمعُ حسيسَ من طوت أسماءَهم سجلاتُ الموتِ، ولا نعرفُ إن كنّا سنخيطُ فجًرا يدلُّنا عن بزوغِ شمسٍ غابت بملامحِ العابرينَ في مخيلتِنا، نحنُ الغارقونَ بدماءِ من سقيناهم حليبَ آمالِنا، الناجونَ بدماءِ من أطعمناهم خبزَ آلامِنا، سنبقى نكرِّرُ الترابَ وندفنُ حرفًا بين الحاءِ والباء.
يا صديقي متى تنتهي الحربُ ويأتي يومُ الحساب؟! كيف نسدُّ دَينَ استقبالِكم ونرفعُ راياتِ الاحتمال؟! متى سنرفعُ قبّعاتِ الفخرِ والاعتزازِ لزوجِكَ التي لا تكِلُّ ولا تملُّ إشعالًا لموقدِ الطعامِ، ليتَنا نبقى على قيدِ الحياةِ لنكتبَ كلَّ قصصِ البطولةِ وهي تقدِّمُ الخبزَ والدِّفءَ والأمان.
قُصِفنا تحتَ سقفٍ واحدٍ ولم تفرِّق القنابلُ بينَ من نزحَ عبرَ خارطةٍ مقسمةٍ بالأرقامِ ومَن استقبل عددًا لا تتسعُ لهُ الغرفُ والجدران.
دعها تدلّلُ راءَ الحربِ وتوصلُ جسورَ الحبِّ والوفاءِ، النصرُ حليفُ من خاطَ قلبَهُ مسكنًا للأمانِ، قد لا يبقى سقفٌ أو جدرانٌ ولكنّنا سنبقى على هذهِ الأرضِ، ننصبُ الخيامَ فوقَ الجراحِ ونمشي سويًّا في ممرَّاتِ الدُّعاء.
دعْنا نجمعُ حُطامَ الذكرياتِ، ونبكي نهرًا مالحًا يجرفُ الأوجاعَ والأحزانَ، ويشقُّ دربًا نحوَ العودةِ للديارِ، نحوَ المجدِ وترميمِ ما أصابَنا من دمارٍ.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=12895