6 December, 2024

فلسطين الإباء – بقلم أقحام وافية

ما أصعبَ الكِتابةَ عنهم! لا حبرَ يكفيهم.

الكلمَاتُ يُغصُّ بها الحلقُ، والحُروفُ ملجُومة لا منافِذَ لها، وأنا مكتُومةٌ مُكوّمةٌ خلفَ الشّاشةِ، أشَاهِد مَصرعَ نساءٍ يُشبهنَ أمّي، وأسمعُ صُراخَ إخوةٍ لي، فتتحجّرُ الكدمَاتُ على صَدري، وتحرِمُني الرّاحةَ والنّومَ. كأنّي مِثلَهم جالسةٌ على رصيفِ المرفأِ أنتظرُ قدري، ورأسي يؤزُّ أزيزًا حارقًا كشراراتِ الجمرِ، استنفِرُ في رُوحي كلَّ شعورٍ كانَ غافياً فاستفاق، ومع كلّ شرارةٍ تؤنِّبُني خليّةٌ من خلايا عروبتي، ويتلاشى فصلٌ من تلكَ الحكاياتِ التَّاريخيّةِ التي كانت تدفّئُنا بعزِّها.

هل سيأتي فجرٌ يلدُ أمجادَنا من جديد؟ يلدُنا من رحمِ الإنسانية؟وهل بالمستطاعِ أن نسألَ؟ أننصرخَ؟ أن ننبشَ الفجرَ الطالعَ لنعثرَ على أشلاءِ أخوتِنا الضَّائعينَ؟ وعلى طفولتِنا المعذَّبةِ الضّائعةِ في ضبابِ الحقِّ وبلبلةِ التَّهجير؟

العالمُ كُلُّهُ أغمضَ عينيهِ عن المجَازرِ في فلسطين، ووَضعَ أصابعَهُ في آذانِهِ، وصمَّ عن جِراحِ الأطفالِ، وقَيَّدَ الحادثةَ ضدَ معلومٍ غيرِ متّهمٍ ولا محكوم.

عالَمٌ يُريدُ أن يجعَل ضميرَ العربِ مستتِرًا، وقروحَ فلسطينَ مبنيّةً للمجهُول، والمحاكِمَ الدّوليةَ لا ترفعُ ولا تنصِب. وقلوبُ المتعاطفينَ مُضمّدةٌ بشِعارِ الحَربِ السّميك، كأنَّ مُدنَ الكوكبِ كلَّها اعتادت على السّماءِبلا نجومٍ، وعلى الشّتاءِ بلا غُيومٍ! اعتادت ذلكَ الأسودَ الدَّامِسَ القادِرَ على إخْفاءِ القُبحِ والظُّلمِ والآثام.

لقد صَارَ العالمُ أكثرَ وحشيّةً؛ وأجبنَ عن مُواجهةِ الحقيقةِ وزرعِ الرّيبِ والحَذرِ من قولِ كلمةِ الحقّ.حتى غابَ الأمانُ وصارَ حِكرًا

على الأرواحِ المُتصاعدةِ باطمئنانٍ خارجَ وِعاءِ الجسدِ، المُحلّقةِ على حِين غفلةٍ من القتالِ الشّرس، تاركةً خلفَها أجسادَها تتمَرّغُ في غُبارِ الدِّماءِ، ورحلت في مواكِبِ الشُّهداءِ الأحياءِ، بل إلى حيثُ بالإمكانِ لقاءُ الأحبّةِ بعيداً عنِ النّزفِ الذي لم يجفّ شريانُه.

إنَّ ما يحدُثُ في فلسطينَ يجعلُنا نفكّرُ ماذا كنّا سنفعل؟ لو عِشنا الظّروفَ نفسَها! ما الأماني التي كنّا سنتمسَّكُ بها في السَّاعاتِ الأخيرةِ من حياتِنا؟ ما هوَ الشّعورُ الذي يعتَرينا ونحنُ نعيشُ تلكَ الويلاتِ والنّكباتِ التي لا تنقطع؟ وأيُّ أسًى وأسَفٍ سنُحسُّهُ؟

إنّ الفلسطينيين أكثرُنا عمَلًا بمقُولةِ عِش كأنّكَ ستمُوت غدًا، بل ستموتُ الآنَ وليسَ غدًا، لذلك هم يعْرفون

قِيمةَ الحياةِ أمّا نحنُ فما عرفْنا للحياةِ قيمةً؛ ولا أقَمْنا للموتِ وزنًا.

شتّانَ بينَنا وبينَهم! نحنُ الذينَ نعيشُ في دوامة (كُل واشرب ونمْ واسترح)، بينما هم يشعرونَ بحقيقةِ الفناءِ الوشيكِ في كلِّ لحظةٍ لأنَّهُم يعيشونَ تحتَ ظلالِ الموتِ وعلى مقْرُبةٍ من شبحِهِ، ونحن نعيشُ كأنَّ الموتَ أمْرٌ غيرُ وارِدٍ بتاتًا ولا يخطُر ببَالنا إلّا عابرًا سُرعانَ ما يتلاشى من خواطِرنا، وهكذا تتعاقَبُ الأيّامُ ولكن ليسَ بالطّريقةِ نفسِها على كِلينا.

رابط مختصر:  https://palfcul.org/?p=12323

Font Resize