أخذتُ أجرُّ خطايَ إليهِ، تتزاحمُ الذكرياتُ في مخيلتي فأطردُها عنّي عنوةً، تتوالى الأسئلةُ إلى ذهني كأمواجِ البحرِ العاتيةِ، هل رحلَ حقًّا عنِ الحياة؟ ولن يكونَ لنا بعد ذلكَ ملتقًى، لماذا لم يودِّعْني ولم يفصحْ لي عن عزمِهِ الرحيلَ، كيفَ سيكونُ حالي بعدَ أن تركَني وحدي مع أطفالي؟؟ ألم يَعدْني قبلَ يومينِ أنَّهُ سيُعمِّرُ بيتَنا الذي دمَّرَهُ الاحتلالُ فلماذا رحلَ ولم يُوفِ بوعدِهِ؟؟
بدتَ الطريقُ من مدرسةِ الإيواءِ إلى مستشفى المعمداني طويلةً رغمَ قصرِها ، كنتُ أمشي كتائهٍ في الصحراءِ أُثَبِّتُ قلبي بالذِّكرِ حتّى لا يحرمَني اللهُ أجرَ الصابرينَ، دخلتُ المستشفى أبحثُ عنهُ بينَ الجثثِ والأشلاءِ حتّى وجدتُهُ، اقتربتُ منهُ، تنهَّدتُ تنهيدةً عميقةً، لملمتُ أجزائي المتآكلةَ وأنا أودِّعُهُ الوداعَ الأخيرَ، كانَ المكانُ صامتًا خاشعًا إلّا من ضوضاء البكاءِ والنَّحيبِ، ورغمَ نبضاتي العاتيةِ التي كانت تتقافزُ في قلبي المكلومِ، أخذتُ أنظرُ إليهِ، أتأمَّلُ بهاءَهُ وكأنَّها المرَّةُ الأولى التي أراهُ فيها، تأمَّلتُ عينيهِ المطبقتينِ بهدوءٍ، وابتسامتَهُ الهادئةَ التي تبدو منها نواجذُهُ، وشعرَهُ الكثيفَ الذي يُعلنُ بدايةَ المشيبِ، ولحيتَهُ التي يتخلَّلُها بعضُ الشعيراتِ البيضاءِ لتزيدَهُ وقارًا، وإصبعَ السبابةِ الذي أشهرَهُ وهوَ ينطقُ بالشهادةِ، شعرتُ أنَّهُ يبادلُني ذاتَ النظراتِ رغمَ موتِهِ، لقد رحلَ بلا عودةٍ حيثُ الجنانُ والرَّاحةُ والأمان.
في حضرةِ هيبةِ الموقفِ صارتِ الكلماتُ تخرجُ من فمي كولادةٍ متعسِّرةٍ، حروفٌ كثيرةٌ كانت تسبحُ في عقلي لكنَّها تتلاشى عندَما أحتاجُها كحبَّةِ رملٍ في عاصفةٍ، أريدُ أن أقولَ لهُ لا ترحلْ عنّي يا وطني وموطني، أريدُ أن أرجوهُ أن يعودَ ولا يتركَني لشتاتِ قلبي، أريدُ أن أقولَ الكثيرَ ولكنَّ الكلماتِ وقفت عاجزةً أمامَ لحظةِ الفراقِ، فواريتُ حزني خلفَ كلماتِ الحمدِ والصَّبر.
لم أكنْ وحدي في تلكَ اللحظةِ فثمَّةَ وجوهٌ كثيرةٌ كانت تترقبُ دقيقةَ خلوةٍ معَ الشَّهيدِ لتفصحَ لهُ عن حبٍّ عميقٍ وفقدانٍ كبيرٍ، ثمَّ ما لبثوا أن حملوا عرشَهُ إلى المقبرةِ، وتركوني أراقبُهُ حتّى خروجِهِ خلفَ أسوارِ المستشفى حاملًا قلبي معهُ.
عُدتُ إلى غرفتي في مدرسةِ الإيواء وأنا أتكئُ على ذكرياتي المبعثرةِ أذكرُ يومَ لقائِنا الأولِ، حينَ أعجبتني ثقافتُهُ وحديثُهُ اللبقُ ووعيُهُ بقضايا أمتِهِ وسيرُهُ الحثيثُ لخدمةِ وطنِهِ بكلِّ حبٍّ، تذكَّرتُ حينَ كنتُ أجهِّزُهُ للرباطِ فأراهُ وهوَ يتألَّقُ ببدلتِهِ العسكريةِ بكلِّ بهاءٍ، ثمَّ يعودُ عندَ الفجرِ وقد تورَّمت قدماهُ من الحذاءِ العسكريّ، فأجدُهُ محتسبًا الأجرَ عند اللهِ ماضيًا دونَ تعثُّرٍ، ليرسمَ بدمائِهِ طريقَ النَّصرِ للأجيالِ القادمة.
ألقيتُ بجسدي المتهالكِ على الفراشِ وأنا أحسُّ بالإعصارِ القائمِ في ذهني، لقد بدا لي كأنَّهُ مدينةٌ مكتظةٌ بالأفكارِ التي لا تهدأ، كيفَ سيمضي عليَّ الخريفُ المتساقطُ والبردُ القارسُ والصيفُ اللاهبُ، بل هل سيكونُ لوردِ الربيعِ أيُّ معنًى للجمالِ في غيابِهِ، كيفَ سأخوضُ أعوامي العجاَفَ دونَهُ، راقَ لوجهي أن يرقدَ بينَ كفيَّ المبسوطتينِ ثمَّ أرخيتُ رأسي على الوسادةِ بألمٍ، شعرتُ بأنَّني ثملةٌ، ثملةٌ جدًّا.
أكلتني حمّى التفكيرِ فأطبقتُ عيني بقوةٍ لأستعيدَ المشهدَ الذي كانَ قبلَ دقائقَ معدودةٍ، وصارتِ الأسئلةُ تتقافزُ أمامي مرةً أخرى.. أحقًّا سيغيبُ عنّي ذاكَ الذي كانت تطربُني ترانيمُ صوتِهِ؟؟ أحقًا سيغيبُ عنّي ذاكَ الذي حطَّ رحالَهُ في قلبي واستقرّ؟؟
تنهَّدتُ تنهيدةً عميقةً كي لا أذكرَ الجرحَ الذي أوغلَهُ فراقُهُ في قلبي، جرحًا مزَّقَ نياطَ القلبِ وأورثَني همًّا لن تمحوَهُ السنواتُ المتتاليةُ، احتضنتُ صغيرتيَّ اللتينِ أسرفتا بالبكاءِ من هولِ الصَّدمةِ، وابنتي الكبيرةُ التي كان يتمنَّى أن يمتدَّ بِهِ العمرُ ليحضرَ حفلَ زفافِها، ثمَّ تداعى إلى ذهني أولادي وهم ذاهبونَ لحفرِ قبرِ أبيهم بالتعاونِ مع ثلةٍ قليلةٍ من أبناءِ العائلةِ، فالحربُ ما زالت على أشدِّها والحركةُ نادرةٌ في الطُّرقاتِ خاصةً مع ساعاتِ الصَّباحِ الأولى..
لملمتُ شتاتي وأدركتُ أنَّ القدرَ يُسَطِّرُ لي قصةَ صبرٍ جديدةً بمشيئةٍ إلهيةٍ وحكمةٍ أجهلُها، ونفضتُ عن قلبي كلَّ تلكَ الأفكارِ، وحملتُ وحدي أنينَ أضلعي، ونحيبًا أصمًّا جابَ أرجاءَ السَّماءِ دونَ صوتٍ، وخرجتُ أستقبلُ جحافلَ المهنئينَ بالشهادةِ، فظنّي بربّي أنّ زوجي في مقامٍ أعلى وأعدلَ وراحةٍ ما بعدَها تعب.
رابط مختصر : https://palfcul.org/?p=14192