فِي هَذِهِ المَدِينَةِ، صَارَ نَهَارُنَا كَلَيْلِنَا مُوحِشًا؛ المَوْتُ يَحُومُ فِي الطُّرُقَاتِ، والغُبَارُ يَحْجُبُ الرُّؤْيَةَ. كُلُّ شَيْءٍ تَحُوطُهُ الرَّهْبَةُ، والهَوَاءُ هُنَا مُشَبَّعٌ بِرَائِحَةِ المِسْكِ، مِسْكِ الغُسْلِ وَالأَكْفَانِ. هُنَا الكَفَنُ بَدِيلٌ لِثَوْبِ الزِّفَافِ، وهُنَا تَمُوتُ العَائِلَاتُ جَمَاعَاتٍ. مَضَيْتُ هَارِبًا مِنْ هَذَا المَكَانِ، وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟ فَالحُطَامُ أَصَابَ أَغْلَبَ الدِّيَارِ، وَالمَوْتُ يُعَشِّشُ فِي الأَرْكَانِ. أَدُورُ بِعَيْنِي فِي حَلَقَاتِ الدَّمَارِ، إِذْ سَمِعْتُ المُسْعِفَ يُنَادِي: “هَلْ هُنَاكَ أَحْيَاءٌ؟” وَلَكِنْ لَا أَحَدَ يُجِيبُ.
هُنَا كَانَ بَيْتُ مَرْيَمْ. قَالَتْ أُمِّي عَنْهَا إِنَّهَا مُجْتَهِدَةٌ فِي الدِّرَاسَةِ، تَفَوَّقَتْ فِي الصَّفِّ المَاضِي بِعَلَامَاتٍ مُمْتَازَةٍ، وَتَنَبَّأَتْ لَهَا بِمُسْتَقْبَلٍ مُشْرِقٍ. وَلكِن اليَوْمَ، رَأَيْتُهَا فِي المَشْفَى، وَفِي عَيْنَيْهَا نَظْرَةٌ طَوِيلَةٌ ثَابِتَةٌ لَا تَحِيدُ.
وهُنَا كَانَتْ تَسْكُنُ هِبَةُ أَبُو نَدَى. كَانَتْ تَكْتُبُ الأَشْعَارَ، وقرأتُ لَهَا مَرَّةً بَعْضَ الأَبْيَاتِ تقول:
“أُحَاوِلُ أَنْ أَرَى ضَوْءًا…
بِآخِرِ عَتَمَةِ النَّفَقِ…
وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعِي…
بزحة…
إِذَا مَا مَاتَ بِي نَجْمٌ…
فَرُوحُ النَّجْمِ فِي الأُفُقِ…
تَظَلُّ تُضِيئُهُ حَتَّى…
يُصَابَ اللَّيْلُ بِالشَّفَقِ…”
أَنْظُرُ اليَوْمَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاهَا هُنَاكَ تُضِيءُ عَتَمَةَ اللَّيْلِ البَهِيمِ. أَسِيرُ بَيْنَ الرُّكَامِ مُؤْنَسًا بِهَا.
هُنَا كَانَ بَيْتُ يُوسُفْ. قَالَتْ أُمُّهُ إِنَّهُ كَانَ جَوْعَانَ، وَعَمَّار كَانَ مَا زَالَ تَحْتَ الرُّكَامِ، فَانتُشِلَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَهُنَاكَ كان عَلَى، وَرُدَيْنَة، وَيَحْيَى، وَأَسْمَاءٌ، وَشِهَابْ، وَفَاطِمَة، وَسِهَام وَجَدُوهَا وَطِفْلَتَهَا حَيَّةً فِي أَحْضَانِهَا، لَكِنَّهَا كَانَتْ قَدْ فَارَقَت الحَيَاةَ.
فِي مَدِينَتِي، اللَّيْلُ طَوِيـــــلٌ، وَمَعَ ذَلِكَ نَسْتَرِقُ النَّوْمَ. أَطْفَالُنَا يُوقِظُهُمْ دَوِيُّ المَدَافِعِ وَالصَّوَارِيخِ، وَالعَالَمُ بآذانٍ صَمّاءَ لا يسمعُ الصريخَ، وعينٌ واحدةٌ تنظرُ الجانبَ الآخرَ وعن عمدٍ لا يرانا.
دَارُنَا، راحت وين؟ راحت فِدَاءً لِلْبِلَادِ. وَلَدِي، مات كَيْفَ؟ مَاتَ بَصمت الأشقاء. أَيْنَ جَسَدُهُ؟ حملتُهُ في حقيبةٍ بعدَ أن جَمَعْتُه أَشْلَاء.
حِكَايَاتُ تسْمَعُها فَقَطْ فِي بِلَادِي.
غَزَّة، يَا رَمْزَ العِزَّةِ وَالكَرَامَةِ وَالرِّجَالِ، فِي جَوْفِ الظَّلَامِ أَرَى يَوْمًا مُشِعًّا بِلَا مُحْتَلٍّ وَلَا حِصَارٍ وَلَا أَسْوَار.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=13010