دخانٌ يُغلِّفُ السَّماءَ، رمادٌ يفرشُ الأرضَ، وسوادٌ يطلي المباني، الأسودُ يُغطّي كُلَّ شيءٍ وكأنّها قد ارتدتْ ثوبَ الحدادِ على نفسِها، غزَّةُ تنزفُ ولا تجدُ من يداوي جُرحَها، تُحتَضَرُ ولا تجدُ من يُلقّنُها الشَّهادة.
توارت الشَّمسُ خجلاً وقهراً وأسفاً خلفَ غيومٍ من الدُّخانِ؛ فالشَّمسُ والحقُّ سِيَّانِ لكنَّ الحقَّ أضحى لا يُرى رغمَ وضوحِهِ، فغابتِ الشَّمسُ حُزناً عليه.
فأصبحت غزّةُ كطفلةٍ حُكِمَ عليها ظُلماً بالسجنِ المؤبَّدِ معَ التعذيب، ما يؤلمُها ليسَ قسوةُ الجلّاد؛ بل تفرُّجُ إخوتِها بصمتٍ!
ما تشهدُهُ غزَّةُ اليومَ كارثةٌ إنسانيةٌ مؤسفةٌ، والإبادةُ العِرقيةُ لشعبِها تلوحُ في الأفُقِ بعدَ موتِ النَّخوةِ العربيَّةِ، وتباطؤِ قادةِ العربِ في الدِّفاعِ عن أولى القبلتين، وبغيابِ العروبة؛ أضحت فلسطينُ المنكوبةُ تواجهُ الحصارَ والقصفَ ظلماً على مرأى العالمِ الأعمى.
على مدى ثمانيةِ عقودٍ ظلّت فلسطينُ تحتَ وطأةِ الاحتلالِ الصُّهيونيِّ، ومنذُ التوقيعِ على وعدِ بلفور – الذي نصَّ على إعطاء وطني لليهود – لم تنعمْ بالاستقرارِ الأمنيِّ جَرّاءَ الانتهاكاتِ الإسرائيليةِ بحقِّ المدنيينَ الفلسطينيينَ، فهي لم تكتفِ بسلبِهم أراضيهم واستيطانِها؛ بل ومارست عليهم الضغطَ العسكري بفرضِ الضرائبِ والبنودِ العسكريةِ، كما عاملتهم بعنصريةٍ بإقامةِ جدارِ الفصلِ الإسرائيلي في الضفةِ الغربيةِ، وارتكبت طوالَ هذهِ الفترةِ أبشعَ الجرائِم الإنسانيةِ بعملياتِ قصفٍ ومجازرَ لم ترحمْ فيها كهلاً أو طفلاً، ومدّت مستوطنيها بالسَّلاحِ الذي انتهكوا به حُرماتِ الفلسطينيينَ، وحرمتْهم من أبسطِ الحقوقِ الإنسانية.
على الرغمِ من شدةِ وطأةِ الحصارِ الذي قصدَ بهِ الاحتلالُ تنفيرَ الفلسطينيينَ من أرضِهم إلّا أنَّهُ لم يزدْهم إلّا تمسُّكاً بها، ونجحَ الفلسطينيونَ رغم التَّطويقِ العسكريِّ المتشدِّدِ عليهم في لملمةِ أركانِهم والقيامِ بعدَّةِ انتفاضاتٍ هزَّتِ الكيانَ الصهيونيَّ المُحتلَّ.
كانتْ فلسطينُ -أرضُ كنعانَ قديماً- منذُ الأزلِ محطَّ اهتمامِ الكثيرِ من الممالكِ والدولِ الاستعمارية، ليسَ فقط لأنَّها تتمتَّعُ بموقعٍ استراتيجيٍّ مميَّزٍ – إذ تعتبرُ صلةَ الوصلِ بين قارتيّ آسيا و إفريقيا – بل لأنَّها أيضاً تملكُ قُدسيّةً دينيةً خاصةً، إذ إنّها مهبطٌ للدياناتِ السماويةِ السَّابقةِ، ولها أهميةٌ دينيةٌ كبيرةٌ لدى المُسلمين والمسيحينَ واليهودَ، وهي مهجرُ أبي الأنبياءِ إبراهيمَ عليهِ السَّلام، ومهدُ عيسى عليهِ السَّلام، موطنُ يعقوبَ عليهِ السَّلام، وإحدى المحطّاتِ لرسالةِ موسى وسليمان عليهما السَّلام، ومسرى سيدِنا محمد صلى الله عليه و سلم، ولقد وصفَها القرآنُ بالأرضِ المباركةِ كما وردَ في مُحكمِ تنزيلِهِ، فهيَ أرضُ الأنبياءِ بحقٍّ وحقيقةٍ، طاهرةٌ وإن عشعشَ فيها دنسُ اليهودِ، نقيةٌ وإن اغتصبوا أرضَها، ممتدّةٌ وإن اقتسموا مساحتَها، عريقةٌ وإن طمسوا تاريخَها، وحرَّةٌ رغمَ حصارِها.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=14290