أستيقظُ مبكِّرًا هذا الصَّباحَ في حيِّ “الزيتون”، أفتحُ نافذتي؛ فتتسلَّلُ أشعةُ الشمسِ إلى داخلي، أستنشقُ الهواءَ النقيَّ بعمقٍ. لكنَّ هذا الصباحَ يبدو مختلفًا، يمتزجُ الهواءُ بدخانِ بارودِ المدفعيةِ الإسرائيليةِ. أستنشقُ ما يكفيني منهُ، تتناهى إلى مسامعي أصواتُ ضحكاتٍ طفوليةٍ عندَ نهايةِ الشَّارعِ المطلِّ على نافذتي. تظهرُ فتاةٌ صغيرةٌ وبعضُ الصبيةِ يتبادلونَ القفزَ فوقَ حبلٍ مربوطٍ بينَ عمودينِ، يتعثَّرُ بعضُهم ويضحكُ بعضُهم الآخر.
تتراقصُ الفرحةُ على وجوهِ الأطفالِ كأنَّها نجومٌ متلألئةٌ في سماءٍ صافيةٍ. الفتاةُ الصغيرةُ، التي تملؤها براءةُ الطفولةِ؛ تضيءُ بابتسامتِها وكأنَّها زهرةٌ نضرةٌ في فصلِ الربيعِ. صرخاتُهم تعزفُ سيمفونيةً من السعادةِ، وضحكاتُهم تنسابُ كأمواجِ لحنٍ طروبٍ، تنسجُ لحظاتٍ من الفرحِ الخالصِ. كلُّ قفزةٍ على الحبلِ تبدو كأنَّها رحلةٌ قصيرةٌ إلى عالمِ الخيالِ، حيثُ يتطايرونَ في الهواءِ كالطَّائرِ المحلِّقِ، يتعثَّرُ بعضُهم ويقعونَ في ضحكٍ صاخبٍ، بينما يُشعِرُ بعضُهم وكأنَّهم أبطالٌ يسحرونَ الجمهورَ بقدراتِهم الخارقة.
لكن فجأةً، يرتفعُ الصَّوتُ الهادرُ للمدفعياتِ الإسرائيليةِ، ويقاطعُ لحظةَ السَّعادةِ تلك. تمتزجُ زقزقةُ العصافيرِ وصوتُ مروحياتِ الأباتشي القاتمةِ التي تقصفُ الحيَّ، وينتشرُ الدخانُ الرَّماديُّ الكئيبُ، فيُشكَّلُ كألفِ شيطانٍ يخرجُ من الجحيمِ ليلتهمَ كلَّ ما حولَهُ برائحتِهِ العفنةِ.
تنتابُني حالةٌ من الرُّعبِ الشَّديدِ، يضيقُ صدري كأنَّما يشتدُّ عليهِ الخناقُ، يتسارعُ نبضُ قلبي ويشعرُني وكأنَّ كلَّ دقةٍ تنذرُ بكارثةٍ قادمةٍ، أرتجفُ من شدَّةِ الخوفِ، وأحسُّ ببرودةِ عرقٍ يتصبَّبُ على جبهتي، أبتعدُ عن النافذةِ وأختبئُ تحتَ الفراش، مختبئًا كطفلٍ صغيرٍ يبحثُ عن ملاذٍ من الرُّعبِ. تملؤني هواجسُ قاتمةٌ وأصواتُ الانفجاراتِ تعصفُ بأعماقي! أتنفَّسُ بصعوبةٍ، وأنتظرُ في حالةٍ من الذعرِ حتّى تنقشعَ المروحياتُ وتغادرَ السَّماءَ.
يخيِّمُ الصَّمتُ على الحيِّ، ولا أرى من نافذتي الفتاةَ والصِّبيةَ. تبدو بقعةٌ حمراءُ والحبلُ المربوطُ بين عمودينِ.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=12927