جاءَ إلى الدُّنيا في زمنِ المعلومة، زمنٌ انسحب فيهِ القَمحُ إلى الدّفاعِ وتَقَدَّمت فيه البيتزا إلى الهجوم، معزَّزة بالكوكا كولا ونفحات من «التّشات» الذي عُزِّزَ في الوقتِ بدلِ الضَّائعِ بالفيسبوك، على أمل أن يقلبَ موازينَ اللُّعبة.
عائلتُهُ الميسورةُ جعلتْهُ بِمَنأًى عن الحاجَةِ والأَلَم وَالوَجهِ المُعتمِ من الكرة الأرضيَّة.
ليلةَ البارحةِ، اِسترقَ السَّمعَ بينَما أبوهُ يشاهدُ الأخبارَ فإذا بصراخِ أطفالٍ وعويلِ نسوةٍ يملأُ الدُّنيا. اِقترب قليلًا ورمقَ قاعةَ الجلوسِ بنَظَراتٍ هِيَ الدَّهشة: بَشرٌ يُدفَنُ بعضُهم أحياءً تحتَ التّرابِ وآخرونَ يُحمَلون إلى المستشفياتِ. قرأَ خبرًا عاجلًا مفادُهُ أنَّ غزَّةَ تَحتَ النَّار.
صدمةُ المشهدِ أدخلتْهُ غرفَتَهُ مرغمًا. حاولَ أن يراجعَ دروسَهُ، غلبَهُ النّعاسُ فنامَ وكتابُ مادّةِ الجغرافيا يغطّي وجهَهُ البريء. غطّتهُ أمُّهُ بدثارٍ ناعمٍ وهمست في أذنِهِ قائلةً: “ربِّ ينجّحك ولدي”.
اِنبلج صبحُ يومٍ جديدٍ من شتاءِ سنةِ 2009، فتذكَّرَ الامتحانَ وغزَّةَ. قال لأمِّهِ وهوُ يلتهمُ الكورن فليكس بالعسل:
- لماذا غزَّة تحت النَّار؟!
ردَّت عليهِ الأمُّ المستعجلة:
- هذه القضيّة الفلسطينيَّة لن تُحلَّ، هيَّا أسرعْ وإلَّا أعاقتْنا زحمةُ الطَّريق.
هرولَت نحوَ سيَّارتِها وهو يهرولُ وراءَها يكادُ يعثرُ بسببِ خيوطِ حذائِهِ الرّياضيّ، باهظِ الثَّمن، التي لم يجد متَنَفَّسَ وقتٍ ليربطَها.
ردَّد النَّشيدَ الوطنيَّ مع زملائِهِ كَكُلِّ يومٍ دراسيّ، وهو بينَ غَفوةٍ وصَحوة. دخل حصَّةَ الجَغرافيا فدمغَهُ الأستاذُ وأترابَهُ بالامتحان المنتظَر. كتبَ على الورقةِ ما عَلقَ بذاكرتِهِ حتَّى هزَّ أوصَالَهُ رنينٌ نَشَازٌ. لَعَنَ الأجراسَ، ككلِّ يومِ امتحان، وسلَّمَ ورقتَهُ إلى الأستاذ. اِنتظرَهُ حتَّى فرغَ من جمعِ أوراقِ زملائِهِ واتَّجهَ صوبَهُ تقودُهُ لهفةُ السُّؤال.
- هل نسيتَ كتابةَ اسمك؟
- لا، ليس هذا. فَقَط، وددتُ أن أسألَك سَيّدي لماذا غزَّة تحت النَّار؟
- غَزَّة مدينة فلسطينيَّة، تَحدُّها مصرُ جنوبًا، لبنانُ شمالًا، الأردنُ شرقًا والبحرُ المتوسطُ غربًا.
لم يكمل أستاذُ الجَغرافيا كلامَهُ، حتَّى قالَ لهُ الفتى المتلهّفُ:
- شكرا سيّدي، لقد فهمت.
خرجَ من الفصلِ والإصرارُ يكادُ يخنقُهُ. اِعترضَه أستاذُ التَّربية البدنيَّة، فاستبشر خيرًا، إذ إنَّهُ دائمُ الابتسامةِ وخَدُومٌ.
- صباح الخير سيّدي.
- صباح النَّشاط والحيويَّة، أهلًا بالبطل.
- سيّدي، ماذا تعرف عن غَزَّة؟
- إن سألتني عن البنيَّةِ عَـــزَّة، التّي فازت بالميداليَّة الفضّية في السّباحة، أجبتك باستفاضَة. أمَّا أن تُضيف نقطةً فوقَ العَين، فجوابي واضح: لا أستطيع الخَوضَ في المسائلِ المؤرَّقة، خصوصًا أنّي أريدُ التَّركيزَ على مباراةِ فريقِنا اليومَ في كرةِ السَّلَّة التي سيجريها ضدَّ فريق النُّسور، إن أمكنَكَ المجيءُ لتشجيعِنا سيسعدُنا ذلك.
شَكَر الفتى سَعيَ أُستَاذِهِ وانطلقَ يُهرولُ لحضورِ حصَّةِ العربيَّة. حينَ انتفضَ أحدُ زملائِهِ ليمحوَ السَّبُّورَةَ، انتَهزَ الفرصةَ وقال لأستاذه:
- سيّدي، غزَّة تحت النَّار، فما رأيك؟
- ألم تُراجعْ دروسَكَ؟ غَــزَّة مُبتدأٌ وتحتَ النَّارِ خَبَرٌ. أم إنَّ ألعاب الحاسوبِ قد ألهَتكَ عن النَّهلِ مِن مَعينِ لُغَتِكَ الأمّ؟
ضحكَ مَن في الفصلِ، وانهمَكَ الأستاذُ في درسِهِ يزوِّقُ السَّبُّورةَ وَيمحُو، إلى أن دقَّ الجرس. انشرح هذهِ المرَّة وانثالَ عليهِ صوتُ الجرسِ نشوةً وحبورًا، فقد حانَ وقتُ الرَّاحةِ. اِنطلقَ إلى المشربِ وشبحُ اللُّمجة والمشروب الغازيّ يتراقصَانِ أمامَ عينيهِ. اِعترضَهُ أستاذُ علومِ الحياةِ والأرضِ متَّجهًا نحوَ قاعةِ الأساتذة مَنهوكَ القُوَى. اِنطلق نحوه بإصرارٍ وسرعةٍ، كالصَّاروخ.
- صباحُ الخيرِ سيّدي.
- صباحُ الأكسجين. كيفَ الحال؟
- الحمدُ للهِ. وددتُ أن أعرفَ لماذا غزَّة تحتَ النّار؟
- ما أعرفُهُ، هو أنَّ تحتَ غزَّةَ الكثيرُ من النُّحَاسِ والمعادنِ الأخرى لكنَّ فنجانَ القَهوةِ الذي ينتظرُني يجعلُني أضعُ حدًّا لهذه المقابلة الصَّحفيَّة، أنا آسف.
اشترى لمجته والمشروب الغازيَّ وعاد فرحًا مسرورًا: تارةً يَقضمُ الخبزَ وأخرى يشربُ ويدندنُ بصوتٍ خافت. اِعترضه أستاذ الرّياضيات يخرجُ من فصلِهِ متَأخّرًا إذ إنَّه اِمتثل إلى بعضِهم يشرحُ لهم مسألةً استعصت عليهم. كان يَحملُ محفظَتَهُ بِيدٍ وأسلحَتَهُ، كوس ومسطرة وفرجار، باليدِ الأخرى وعلى وجهِهِ بعضُ الغبارِ الأبيضِ ويدُهُ ملوَّنةٌ بالأخضرِ والأحمر.
- سيّدي، سألتُ العديدَ لماذا غزَّة تحت النّار فخابَ مَسعَايَ. هل أجد عندَكَ جوابًا عن هذه المعادلةِ الغامضة؟
- بدايةً، هذا التَّمرينُ ليسَ سهلًا. لكن، إن أردت إجابةً باستعمالِ الحساب، لقلنا إنَّ غزَّة تحت النَّار تعني أنَّ غزَّة مقامٌ والنّارَ بسطٌ لأنَّه في الكتابةِ الكسريَّة يكون البسطُ فوقَ المقَام. أمَّا إذا نظرنا إلى المسألةِ بعينِ الهَندَسَة، ثمَّ وَجَّهَ الكُوسَ نحو تلميذِهِ كالمسدَّس، فيمكنُ القولُ إنَّ غزَّة نقطةٌ مِنَ المستَوِي إحداثيَّاتها غَابَت عَن ذِهني السَّاعَةَ وَيُمكِنُ أَن نُبَرهِنَ على أنَّ هذه النُّقطة هي مركزُ الدَّائرةِ المحيطةِ بمثلَّث، لكن لا تسألْني عن رؤوسِهِ. يمكنك أن تعتبر ما قلتُ تمرينا منزليًّا”.
اِنطلق الأستاذُ بَعدَها نحو قاعَة الأساتذَة، لا يشغل بَالَه سِوَى قهوةٍ يُثبِّتُ بها النِّقَاطَ عَلى الحُروفِ، يَغتَسل بها ذِهنُه بَعد مُعَاناته اليَوميَّة مع الخُطوطِ والأرقامِ والعقولِ التي ترى في الرياضياتِ غولًا مُخيفًا.
قال مُحدّثًا نَفسَه: “إنَّ فُضولي لم يَذهَب سُدًى، فَعَلى الأَقلّ تأكَّد لي أنَّ النَّاسَ لا يُحبُّونَ الخوضَ في الموضوعِ، لكن حَتمًا سأجدُ إجابةً مَّا، فلا أخالُ أنَّ في الحياةِ مسألةً لا يوجَدُ لَها حَلٌّ”.
بينما هو يُنَاجي نفسَهُ، برز أستاذُ التَّربيةِ الدّينيَّةِ من قاعةِ الأساتذةِ يَلفُّ نفسَهُ بوشاحٍ يَقيهِ البردَ.
- صباح الخير سيّدي.
- بل نقول السَّلام عليكم.
- عُذرًا، السَّلام عليكم.
- وعليكم السَّلام. ماذا أردت؟
- سيّدي، وددت أن أسألك لماذا غزَّة تحت النَّار؟
ابتسم أستاذُ الدّين، فاستبشرَ التّلميذُ الفضوليُّ خَيرًا، عَلَت وَجـهَه اِبتسامةٌ ولمعت عيناهُ كالفارحِ بهديَّةِ يومِ العِيد.
- مَتى تَدرُس عندي هذا الأسبوع؟
- غدًا سيّدي، أجابَ الولدُ وهو يبتَلعُ ريقَهُ.
- إذن، غدًا سَوفَ أُحدِّثُكم عن لوَّاحَةٍ للبَشَر عليها تسعة عشر: نَارُ جَهنَّمَ، دَرَكَاتُهَا، مَن يَكُونُ تَحتَه لَهيبُها عَلَى الدَّوَام وَمَن يَرزَحُ فيها رَدحًا مِنَ الزَّمَن ثُمّ يُخرَجُ منها ليَنعَم بالجَنَّة وَمن لَن تَمَسَّه أَبَدًا، أمّا النّصف الأوّل من السُّؤال فليس من اِختصاصي.
هَمهَمَ الولدُ قليلًا، فهو لم ينتظرْ البتَّةَ هكذا جوابًا، ثمّ شكرَ أستاذهُ واتَّجهَ صَوبَ حصَّةِ الإنجليزيَّة. لم يحاولْ أن يطرحَ حَيرتَهُ على الأستَاذَة، فهو يعلمُ أنَّها لا تريدُ أن تسمعَ كلمةً واحدةً بالعربيَّة في حصَّتها. أكملَ يومَهُ الدّراسيَّ وحينَ خرجَ وجدَ أباهُ، هذهَ المرّة، في اِنتظاره.
- مساء الخير أبي
- مساء الخير
اِنطلقَ الأبُ بسيَّارتِهِ تلتهم الطَّريق التهامًا، يمسكُ المقودَ بيدٍ والهاتفَ بالأخرى.
- ألو، هل خرجَت ابنتُكِ مِنَ المعهد؟
- نعم، لقد اِتَّصَلَت بي مُنذ قليل وقلتُ لها سيأتي أبوك ليقلَّكِ فَأَنَا لَا بُدَّ أَن أَذهَبَ إِلَى قَاعَةِ الرِّيَاضَة.
أجابت أمُّهُ، وهي تُعِدُّ حَقِيبَتَها لِتَذهَبَ مَع جَارَتها التّي تَنتَظرُهَا بالسَّيَّارة أَمَامَ المنزل. أمَّا الأَبُ فَقَد كَانَ يَسُوقُ على طريقةِ أبطالِ سباقِ الفورمُولا وَانْ، يُسرعُ، يراوغُ السَّيَّارات ويَلعَنُ السِّيَاقَة مُتَمتِمًا بكلماتٍ لم يفهمها اِبنهُ. اِلتَفَتَ إليه وقال:
- أبي، لماذا غزَّةَ تحت النَّار؟
- عفوًا، لا أستطيعُ الكلامَ الآنَ فكما ترى، المشاغلُ كثيرةٌ وزحمةُ السَّيرِ تُشَنِّجُ أعصَابي، حتمًا الأقدار شاءت أن تكونَ غزّةَ كذلك.
أخرَجَ مِن جَيبِهِ هَاتفهُ المحمولَ وانطلقَ، كعادتِهِ، يرسلُ الإرساليَّات القصيرة إلى أصدقائِهِ. مرَّا على أختِهِ فصعدت السيّارة وهاتفُها في يدِها أنساها أن تُفشي السَّلَام في الرَّاكبَين الصَّامِتَين.
عند دخولِهِ المنزلَ، تمدَّدَ على الأريكةِ وأخذَ يقلّبُ القنواتِ كالمجنونِ. حتَّى أنَّهُ لم يعبأْ بأختِهِ التّي سألَتهُ ما إذا كان يريدُ لــُمجَةً أم لا. اِستوقفتْهُ نشرةُ أخبارٍ فيها وجهٌ بريءٌ يعلوهُ شعرٌ بنّيٌّ أشعثُ أغبرُ، تربّعت فيه عينَانِ واسِعَتَانِ وُسعَ السَّمَاء، كأنَّها تطلُّ من شُرفاتِ الغيبِ. نَهَضَ وَرَفع صَوتَ التّلفاز.
- اِسمي تغريد، غزَّاوِيَّة. لم يبقَ من عائلتي سوى أخي الذي يصغرُني بِسَنَة، لكن ونحنُ نستقبلُ سنةَ 2009 بهذا الدَّمارِ والحرمانِ أريدُ أن أقولَ قولةَ خالي الشَّهيرة: “فلسطينُ قلبُ الأمَّة والقلبُ لا يكون سليمًا إلَّا إذا ضَخَّ الدَّمَ”. سنواصل ضَخَّ الدَّمِ حَتَّى آخر قَطرَة.
- تغريد، ماذا يمكنك أن تقولي للأطفالِ الذينَ يشاهدونَكِ الآن؟
أجابت البنيَّةُ الصحافيَّ بلهجتِها الفلسطينيَّة قائلة:
- أنا بْكُولِلْهُم إنّو رَبّْنَا شَاء إنُّو إحنا ندفع الثَّمن. وإنُّو اللّي صاير مَعَانَا هَدَفُو إنُّو احنَا نْغَادِرْ بَلَدْنَا. لكن مستحيل نغادر لأنو أرضنا عرضنا وشرفنا وتاريخنا ومستقبلنا. بْكُولْ لكلّْ الأطفال العرب وغير العرب أحبكم تكونو معانا بِكْلُوبْكُمْ، خصوصا إنّو كْتير من الكبار ما نَصرُونَــاشِ. وبكوللهم أيضا إنّو هاضولا الإسرائيليّة نهايتهم كَـــريبَة. أنا أبويا وأمّي اِستشهدوا لكن راح أحمي أخي لِزْغِير وراح نكمّل المشوار.
حدَّثَ نَفسَه، وعيناه تبرقان بفعلِ دميعاتٍ فارت فيهما، قائلًا: “تغريد، أنت من شفيت غليلي وأجَبتني عن سؤال لم أجد له عند القَوم جوابا”.
عادت الأمُّ من قاعةِ الرّياضةِ وهي تشعرُ أنَّ شبابَها المفقودَ قد عادَ إليها كما تعودُ الطُّيورُ إلى أوطانِها بعدَ هجرةٍ. أقبلت نحوَ الولدِ المكلومِ، يُخفي، دونَ جدوى، كُلُومَهُ وراء وجنتينِ بريئتين.
- عزيزي، اِشتريتُ لكَ بيتزا وكوكا كولا، هيَّا لتأكلَ معَ أختِكَ. ما بكَ هل تشعرُ بألمٍ ما؟
ردَّ عليها وهو يتحايلُ على الغصَّة التي تَخنُقُه، ماسحًا ما تبقَّى مِن بَلَلٍ على وجنتيه الغضَّتَين، كي لا تسأله عن سبب بكائه:
- أنا أخجل من تغريد.
- ماذا قلت؟
- لا، لا شيءَ، قلتُ أريدُ، أقصدُ أريدُ أن أنامَ فأنا لا أشعرُ بالجوع.
دخل غرفَتَهُ، أطفأ النُّورَ واستسلم للنَّوم.
فجأةً، استيقظَ على صوتِ أمِّهِ تقولُ: “هيّا، لقد حانَ وقتُ الذَّهاب إلى المدرسةِ، تذكَّرْ جيّدًا أنَّ غدًا امتحانَ الرّياضيات ولن أرضى بأقلَّ من الامتيازِ وإلَّا حَرمتُكَ اللَّعبَ على الحاسوبِ والذَّهَابَ يومَ السّبتِ إلى عيد ميلاد نسرين بنت جارَتِنَا جيجي.”
https://palfcul.org/?p=12231 رابط مختصر