10 February, 2025

تقاريرُ لن تُرسَل – بقلم لطيفة خالد

ارتواءٌ حديثٌ عن طوفانٍ سيكتملُ بوعدٍ منَ الرحمنِ، هكذا كانوا يردّدونَ وكلماتُهم لا تزالُ في عقلي وقلبي، ولمَّا وطأتُ أرضَ بلدي اشتعلت حواسي لرؤيةِ ابني وزوجتي، وركضتُ إليهما غافلًا عن كلِّ من حولي، عانقتُهما طويلًا وبكيتُ ورويتُ الأرضَ، وأبكيتُ زوجتي، وحملتُ ابني وقفلتُ عائدًا إلى منزلي، وأنا في الطريقِ نطقتُ كما لم أتفوهْ من قبلُ.

حكيتُ لزوجتي كلَّ ما في بالي وهواجسي اتجاهَ ابني، لقد منَّ اللهُ عليَّ بأن أحضنَهُ وأراهُ. وفي المشهد الآخرِ حيثُ كنتُ، الأطفالُ هم من يحملونَ الآباءَ رغمَ صغرِهم، إنَّهم حقًّا رجالٌ، وأخبرتُها عن طفلٍ بقيَ حيًّا؛ وعائلتُهُ كلُّها قضت تحتَ الرُّكامِ، كانَ صراخُهُ مؤلمًا كأنَّهُ على علمٍ بفقدانِهِ لأحبابِهِ، وكانَ تارةً يضحكُ وتارةً يبكي، ولا تزالُ ضحكاتُهُ محفورةً في ذاكرتي وحاضرةً أمامي، إنَّهُ يهزأُ من جبروتِ الآلةِ الحربيةِ المدمِّرةِ القاتلة حتّى أنَّني حسبتُهُ واعيًا مدركًا لما يحصل.

وصلتُ بيتي وأرسلتُ استقالتي، وأسررتُ لزوجتي سريرتي وشجَّعتني، ورحنا نفكِّرُ بعملٍ حرٍّ كي نربّي ابنَنا ونعيشَ بكرامةٍ، فليسَ صحيحًا أنَّ الغربَ يحترمُ الإنسانَ أكثر. العملُ عندَنا مقدَّسٌ وهوَ معيارٌ للعيشِ، ولذلك ترانا دائمًا في سعيٍ وركضٍ وازدحامٍ وضجيج، لقد أنشأنا لنا عملًا؛ وهو كتابةُ تقاريرٍ لوكالاتٍ إعلاميةٍ وإعلانيةٍ، ولكن ليسَ كالتحاقي بوظيفةٍ وإنَّما هو عملٌ بلا قيودٍ وقتيةٍ وزمنيةٍ، وعاملُ الاجتهاد هو المقرِّرُ للمبلغِ الذي نتقاضاه.

ولكن بالرغمِ من كلِّ الصعابِ، العملُ الحرُّ هوَ الأنجعُ، فلا نتحمَّلُ مسؤوليةَ تزويرٍ ولا تحويرٍ، نكتبُ بضمائرَ حيةٍ وبلا إخراجٍ أو فلاترَ أو فوتوشوب. ويبقى في عالمِنا اليومَ أحرارٌ يبغونَ الحقيقةَ وينصرونَ المظلومينَ، وأخذتُ على عاتقي نصرةَ شعبِ فلسطينَ وأهلِ غزَّةَ، إنَّهم كرامٌ ترى فيهم أصولًا لا تفنى وكرامةً لا تُهدَرُ وهم أصحابُ حقٍّ وأرضٍ.

إنّهم رغمَ الموتِ والدَّمارِ والحصارِ هم ُالحياةُ بكلِّ معانيها، يحزنونَ ويفرحونَ ويعيشونَ، يقرِّونَ بحقوقِ الإنسانِ، ويعترفونَ بالآخر وثابتونَ على فطرتِهم، مدافعونَ عن عرضِهم وأرضِهم، والدِّينُ عندَهم شريعةٌ للحياةِ وللسعادةِ الدنيويةِ والأبديةِ، تعلَّمتُ منهم كيفَ يطفئونَ النيرانَ بالصَّبرِ والدُّعاءِ، وكيفَ يرتقونَ فوقَ الجراحِ بالتعالي فوقَ الوجعِ والحزنِ، وكيفَ أنَّ غايتَهم أن يعمَّ السلامُ الأرضَ وأن تعمرَ البلدانُ بالخيرِ والبناءِ، من شيوخِهم نلتُ حماستي، ومن شبابِهم حكمتي، ومن أطفالهم حياتي، ومن نسائِهم نصرةَ المظلومِ، ومن عبقِ الليمونِ والزيتونِ الصبرَ والأناتِ على الأحوال. وكانت رحلتي الأولى إلى الشرقِ المهيبِ؛ ولن تكونَ الأخيرةَ، ولكن ليسَ قبلَ أن نرفعَ أصواتَنا ونُفضي بما شاهدناهُ وعشناهُ، وكيفَ أنَّ دولةً تستقوي بعدتِها وعتادِها على مدينةٍ بلا ماءٍ ولا كهرباء ولا غذاءٍ وحتى بلا سلاحٍ، فما يصلُ إليهم قليلٌ وهم يبدعونَ في صناعةِ آلةِ الدفاعِ الهجوميةِ الخاصةِ بهم. لقد قاموا قبلَ القصفِ المروِّعِ لغزَّةَ بإنزالٍ في أكثرَ من مكانٍ، وأحرزوا بطولةً أيَّدَتهم فيها الشُّعوبُ على امتدادِ الكرةِ الأرضيةِ في الشَّرقِ والغرب، أسروا نفرًا من جنودِ العدوِّ وعاملوهم بالحسنى، ودرَّسوهم أمثولةَ كيف يُحترمُ الأعداء، وهذهِ الدُّروسُ لا تتقنُها دولةٌ همجيةٌ؛ لا تعترفُ إلّا بنفسِها، وتعتقدُ خطأً أنَّها شعبُ اللهِ المختار، والواقعُ يصرِّحُ بأنَّهم شعبُ الحقارةِ والدَّناءةِ والبذاءة، وأنا الغربيُّ أشهدُ أنَّها كذلك، وسأنطقُ شهادةً أخرى وأتمنّى من زوجتي أن تردِّد معي: أشهدُ ألّا إله إلّا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. وهكذا أضمنُ أنّني إنسانٌ وأن يعيشَ ولدي وهو فخورٌ بإنسانيتِهِ وبدينِ اللهِ الواحدِ، ووعدٌ قطعتُهُ على نفسي أنَّهُ عندَما يصبحُ ابني شابًّا أن أزورَ غزَّةَ وفلسطينَ، وأن أجعلَهُ يمشي فوقَ الأرضِ المقدَّسةِ، وأن نصلّي في القدسِ معًا ولو بعد حين.

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12995

Font Resize