11 February, 2025

بخيرٍ يا غزَّة – بقلم أمل محمد حسن

كانت ضرباتُ قلبِهِ قويَّةً تشبهُ دقَّاتِ القنبلةِ قبلَ الانفجارِ، لم يتمكَّنْ منَ النَّومِ تلكَ الليلةَ بل لم ينم منذَ مئةِ ليلةٍ، كان ينتظرُ الصَّباحَ ليمنحَهُ النُّورَ، ولطالما كانَ يفركُ عينيهِ في الليالي السَّابقةِ المظلمةِ بشكلٍ هستيريٍّ رغبةً في ومضاتٍ ملوَّنةٍ كما قال لي.

أمّا في ذلكَ الصَّباحِ فقد رأيتُ مصعباً ذا السَّبعةِ أعوامٍ بلونٍ مختلفٍ لم أرهُ من قبلُ فكانت بشرتُهُ البيضاءُ شاحبةً حدَّ الذُّبولِ كورقةٍ تبدَّلت فصولُها سريعاً، عيناهُ الجميلتانِ الزَّاهيتانِ غائمتانِ، مكسورُ الجفونِ لا تسطعُ نظراتُهُ المعتادةُ؛ يا ويلي لم أتمكَّنْ من أن أسألَهُ ما بك؟

 فتلكَ الأسئلةُ بالنسبةِ لنا في تلكَ الأيَّامِ كخزَّانِ أبي الخيزران، نموتُ فيهِ دونَ أن يجرؤَ أحدُنا على دقِّ جدرانِهِ فالجميعُ مقبورٌ بصمتٍ ملعونٍ، حتّى كلمةُ أحبُّكَ لم أتمكَّنْ من قولِها فكلُّ أحرفِها تثيرُ قنواتي الدَّمعيةَ فتنجرفُ سيولي كطعناتٍ في قلبِ أطفالي لا بدَّ من أن أصمدَ وأصمدَ حتّى ماذا؟ لا أعلم!.

 وأذكرُ أنّي كنتُ أقولُ لهمُ كلَّ ليلةٍ: “أحبُّكم صغاري أحبُّكم حتَّى السَّماء تصبحونَ على جنَّةِ خُلدٍ”، لكنّي اليومَ أخشى أن أقولَ: تصبحونَ على جنَّةٍ يا لتلكَ الكلمةِ التي تجعلُ قلبي ينقبضُ دونَ انبساطٍ.

ارتديتُ ملابسي مسرعةً؛ ذلكَ الثَّوبَ الأسودَ، وحجابي البنّي، وأخذتُ حقيبتي البيضاءَ ووعدتُهم بأنّي سرعانَ ما أعودُ، وعليهم أن يحزموا الأمتعةَ وألا ينسوا كلَّ ما نحتاجُ إليهِ لمواجهةِ الأيَّامِ المقبلةِ، وعدتني ابنتي الحبيبةُ بأنَّها ستنهي كلَّ شيءٍ سريعًا، وابتسمت في طاعةٍ، لم أستطع النُّزولَ دونَ جولةٍ سريعةٍ بالدَّارِ صرتُ أحتفظُ بلقطاتٍ منهُ تشبهُ إغماءَةً قصيرةً  تدورُ فيها الصُّورُ أمامَكَ دونَ أن تتمكَّنَ من أن تفهمَ من أيِّ ركنٍ وبأيِّ وقتٍ فشعرتُ بدوارٍ جعلني أمسكُ رأسي، ولم أدركْ أنَّ هناكَ عيوناً تراقبُني؛ أنَّها عيونُ مصعب ولدي الحبيبِ جري نحوي، وأمسكَ بثوبي قائلاً: أمّي إلى أينَ أنتِ ذاهبة؟

أمسكتُ يدَهُ وحرَّرتُ ثوبي من قبضتِهِ التي بدت كسلاسلَ محكمةِ الإغلاقِ قلتُ محاولةً تغييرَ المشهدِ: من أينَ لكَ بتلكَ القوَّةِ يا مصعب؟

ثمَّ أكملتُ: سأشتري الطَّحين وأعودُ فوراً.

بدا كأنَّهُ لم يسمعْني، وقال: “أمانة خديني يا ماما، والله خايف عليكِ”

لأوَّلِ مرَّةٍ يضطربُ مصعبُ ويعترفُ بالخوفِ، ارتعشتُ، وناديتُ أخاه ليجالسَهُ حتّى أعودَ ولا أذكرُ كيفَ سرتُ في الطُّرقاتِ ولا كيفَ أحضرتُ الطَّحينَ، كلُّ ما أذكرُهُ صرخاتي المؤلمةَ حين وجدتُ البيتَ صارَ ركاماً صرختُ: ” أولادي راحوا أولادي راحوا “يا عالم ولادي راحوا” ضعفت المشاهدُ الغزيرةُ السَّابقةُ بعقلي وتوقَّفَ هنا في ثباتٍ، وصارَ ليلي ساجداً للمآسي يتلحَّفُ الأحداثَ في بطنِ الظَّلامِ، ولم يبارحْني صوتُ الانفجارِ لحظةَ قصفِ البيتِ، ولم يزلْ أطفالي تحتَ الرُّكامِ، واليومَ صرتُ كسجينٍ في سجنٍ انفراديٍّ ضيِّقٍ لكنَّني بخيرٍ يا غزة.

رابط مختصر: 

Font Resize