لم أحرْ كثيرًا عندَما بدأتُ سردَ هذهِ الخاطرةِ عن أطفالِ غزَّةَ، فمنذُ أن بدأتُ أتابعُ الأحداثَ التي جرت في غزَّةَ بعدَ السَّابعِ من اكتوبر ٢٠٢٣م هالَني مستوى الأحداثِ المؤسفةِ التي جرت للأطفالِ والفتيانِ الصِّغارِ خاصَّةً لأنَّهم الفئةُ الأضعفُ، لقد استوحيتُ هذهِ الخاطرةَ من أحداثٍ عاصرَها الكثيرُ من أطفالِ غزَّة، فآثرتُ أن أكتبَ عن تلكَ الصَّدماتِ المريعةِ التي ألمَّت بهم وتعرَّضوا لها جرّاءَ ما كان يحدثُ من قصفِ وتدميرِ منازلِهم، ومشاهدتِهم آثارَ الدمارِ والقتلِ من حولهم، سوف أروى هذهِ الخاطرةَ بصفةِ الغائبِ عن طفلٍ فلسطيني يمثِّلُ شريحةَ الأطفالِ في المعاناةِ.
يقولُ الفتى الصغيرُ: اليومَ أصبحتُ في سنِّ العاشرةِ من عمري لكن عندَما تشاهدُني تقولُ عنّي كأنّني رجلٌ كهلٌ؛ لأنَّ الأحداثَ التي عايشتُها خلالَ الأشهرِ الفائتةِ أوجدت لي تجاربَ نفسيةً كلُّها صدماتٌ ومآسٍ فأرهقتني بشكلٍ كبيرٍ، وأثَّرت على نفسيتي التي انعكست على وجهي وتصرُّفاتي، لقد كنتُ فتًى مثلَ باقي أطفالِ العالمِ لديهِ أحلامٌ؛ وأصدقاءٌ وألعابٌ؛ وأسرةٌ يعيشً بينها في سعادةٍ وهناءٍ، لكنَّهُ الآنَ أصبحَ يرقدُ منهكًا بعدَ أشهرٍ داميةٍ في أحدِ مخيَّماتِ رفح، تراودُهُ كوابيسُ وأحلامٌ مزعجةٌ بينَ الحينِ والآخر وبشكلٍ منتظمٍ.
كانَ من بينِها رؤيةُ صديقِ عمري الذي كنتُ لا أفارقُهُ في المدرسةِ ولا عندَ لعبِ الكرةِ بالحيِّ ولا عندَ مشاهدةِ التلفاز؛ فلم نكن نفترقُ إلّا عندَ النَّوم، لقد كنّا نتشاركُ أحلامَنا وطموحاتِنا وتطلعاتِنا معًا، كنتُ أشاهدُ في المنامِ رفيقي يقتربُ من حافةِ هاويةٍ ستؤدّي بهِ إلى الموتِ والهلاكِ، وأنا أحاولُ أن أمسكَ بِهِ كي لا يقع، لكنَّني عندَما أستيقظُ أتذكَّرُ اللحظاتِ الجميلةَ التي كنّا نستمتعُ بها معًا، فتهدأ نفسُهُ قليلًا، لكن عندَما أنامُ ترجعُ تأثيراتُ الصدماتِ الكبرى في حياتي على هيئةِ أحلامٍ مزعجةٍ.
هذا الفتى الصغيرُ عندَما فقدَ معظمَ أسرتِهِ وجيرانِه الذين كانوا حولَهُ؛ انتابتْهُ هذهِ الصَّدماتُ العاتيةُ وهي بلا شكٍّ قد حدثت لألوفِ الأطفالِ أمثالهِ بقطاع غزة، فشكَّلت آلامًا عميقةً بأنفسِهم؛ وقلوبِهم وأجسامِهم، لقد تجمَّعت بهذا الطفلِ التحولاتُ المأساويةُ كافةً عبرَ نزوحِهِ من مدينةِ غزَّة التي كان يسكنُها، بعدَ أن قُصِفَ منزلُهم واستشهادِ جميعِ أسرتِهِ الصغيرةِ وجيرانِهِ، ثمَّ نزوحِهِ إلى مدارسِ الاونروا بوسطِ القطاع ثمَّ قصفِ المدرسةِ التي لجأَ إليها مع مئاتِ الأطفالِ والأسر، والآنَ أصبحَ في أحدِ مخيَّماتِ رفح لا يعلمُ ماذا يحملُ لهُ الغدُ من أخبار! كلُّ خطوةٍ كانَ يخطوها كانت معها حكايةٌ تتعمَّقُ داخلَهُ فيطرحُ بينَهُ وبينَ نفسِهِ الكثيرَ من الأسئلةِ التي لا يجدُ لها إجاباتٍ في مسألةِ التقلباتِ التي حدثت وتحدثُ لهُ حتى هذهِ اللحظات التي أدوِّنُ بها هذه الخاطرة.
قد تبدو الصورةُ مرعبةً ومؤلمةً لمثلِ هذا الفتى الصغيرِ وأمثالِهِ، لكن في المقابلِ هناكَ شعبٌ بأكملِهِ ينتفضُ رويدًا رويدًا بإذن الله، ليقولَ للعالمِ: إنّني هنا أريدُ أن أستردَّ أرضي وحريّتي وإن كانَ الثَّمنُ باهظًا ومؤلمًا، قد تبدو الصُّورةُ قاتمةً ومرفوضةً بمشاهدِها؛ البيوتُ التي قُصِفَت والأسرُ المنكوبةُ، والنَّازحونَ والقتلى والمرضى، مناظرُ شنيعةٌ، قصفٌ وإجرامٌ وإبادةٌ، لكنَّ هذهِ المأساةَ التي تعرَّضَ لها الشعبُ الفلسطيني بمكوِّناتِهِ كافةً خاصةً الأطفالُ والفتيانُ الصغارُ منهم؛ هي ولادةٌ جديدةٌ لشعبٍ يريدُ الانفصالَ؛ الانفصالَ التَّامَّ عن الذُّلِّ والهوانِ، ليكونَ حرًّا يصنعُ قرارَهُ بنفسِهِ!..
لا لتخيُّلاتِ الموتِ بعدَ الآن؛ قالَها الفتى الصغيرُ لنفسِهِ، نعم إنَّهُ انفصالٌ تأثَّرت بِهِ مكوناتُ المجتمعِ الغزّاوي ودفعوا ثمنَهُ أنفسَهم، وشتاتَ أفكارِهم، وحزنَ مشاعرِهم، كبيرهم وصغيرهم من أجلِ أن تتبلورَ وتتشكَّلَ صورةٌ جديدةٌ لوضعٍ جديدٍ في فلسطينَ القادمةِ بحولِ اللهِ تعالى.
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=12378