9 February, 2025

أرضُ الزَّيتون – بقلم عبد الإله بوزين

انشدخَ البابُ، ثمَّ استقرت رصاصةٌ في كتفِهِ، تطايرت دماؤُهُ على الحائطِ راسمةً لوحةَ الجنازة. تأوَّهَ ثمَّ وضعَ كفَّهُ على فيهِ وكأنَّهُ يحاولُ كتمَ الصَّرخات. كان ذلكَ أشبهَ بكابوسٍ استفقتُ منهُ، لكن هذا ليسَ بحلمٍ بل هي حقيقةٌ؛ رأيتُها بعيني وبصرتُها ببصيرتي.

لعلعَ الرصاصُ خارجاً؛ وكأنهم أفرغوا رشاشاتِهم في كيسٍ بلاستيكي، فتحتُ فجوةَ النافذةِ فإذا بجثثِ الأطفالِ متراميةً كالزرعِ المحصودِ تقفُ على رؤوسِهم ثلَّةٌ منَ المسلَّحين.

عدتُ إليهِ أرتجفُ لعلّي أنتشلُ شظايا الرصاصةِ المدفونةِ في كتفِهِ، وحينَ اقتربتُ منهُ جفلَ، وقالَ:

– دعكَ من هذا، واهربْ بروحِكَ قبلَ أن يقتحموا البيتَ ويقتلوك.

انقلبتْ عيناهُ كأنَّهُ يُحتَضرُ، وغابَ دقائقَ معدوداتٍ ثمَّ زفرَ زفرةً طويلةً كمن حملَ ثقلَ الدُّنيا بكتفيهِ ووضعَهُ برهةً يستريحُ منه. كانَ جسدُهُ ثقيلاً على طفلٍ بعمرٍ إحدى عشرة سنة، جررتُهُ مع أرضيةِ البيتِ لعلي أبلغُهُ مخبئاً يحتمي بهِ حتى أعود. كلَّفَني ذلكَ استنزافَ جهدي بأكملِهِ وخرّت قواي، وما عدتُ قادراً على تحريكِ أصبع.

حينُ سقطتُ بجانبِهِ ألهثُ من ثقلِهِ، ضمَّني إليهِ بحرارةٍ؛ وفاضت عيناهُ بالدَّمعِ، ثمَّ اعتلتُهُ ابتسامةٌ عذبةٌ وقالَ:

– لا تجزعْ يا كبدي، إنَّنا ورثنا شجاعةً على الموتِ من أجدادِنا، فلا تمتْ إلّا دفاعاً عن هذا البيت.

حالما لُطِّختُ بدمائِهِ وعادَ ما عادَ من قوَّتي بعدَ ضعفِها، سمعتُ صوتَ أقدامِهم يقتربُ منّا، انتشلتُ المديةَ من قرابِها منتظراً أولَ داخلٍ. أخذتْ يدٌ تحرِّكُ مزلاجَ البابِ ببطءٍ، وبالقدرِ الذي هي تحاولُ فتحَهُ، كنتُ مستعداً لحفرِ ثقبٍ كبيرٍ في صدرِ صاحبِها بمديتي، أومأَ لي بعينيهِ أن أختبئَ تحتَ الأريكةِ، وكما أشارَ فعلت.

لمَّا دخلوا واتَّبعوا آثرَ الدَّمِ الذي قادَهم إليهِ تمنَّيتُ لو كانت لي قدرةٌ على محقِهم عن بكرةِ أبيهم، لكن كيف؟ ما أنا إلّا طفلٌ قُدِّرَ لهُ أن يشاهدَ مقتلَ أبيهِ ويحملَ ثأرَهُ طيلةَ حياتِهِ.

اقتربَ منهُ أحدُهم ووضعَ المسدَّسَ بينَ عينيهِ؛ ثمَّ أطلقَ عليهِ رصاصةَ الرَّحمةِ والخلاصِ من الألمِ الذي كان يفترسُ كتفَهُ. قتلوا أبي أمامَ عيني وفتحوا بقتلِهِ ثقباً في القلبِ، صارَ مشهدُ مقتلِهِ سكاكينَ تُقطِّعني، وأكثرَ من وجعٍ يسكنُني.

بعدَ أن قتلتُ بأبي مئةَ كلبٍ من رجالِهم، ثأرتُ لقطرةٍ واحدةٍ من دمِهِ، فليسَ فيهم من هو كفءٌ لحبيبتي وصاحبي لأشفي غليلي، ولن أرتاحَ حتّى أمحقَهم عن بكرةِ أبيهم.

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12244

Font Resize