كثيراً ما تريدُ أن تبوحَ بما في نفسِكَ، تودُّ أن تجدَ من يسمعُكَ، فتلجأُ للكتابةِ لعلَّكَ تجدُ الرَّاحةَ، ومعَ ذلكَ ترى آثارَ الجراحِ في سطورِكَ وحروفِكَ.
ما يميِّزُ كلَّ عملٍ أدبيٍّ يخرجُ من قطاعِ غزَّةَ أنَّهُ وصفٌ لحقيقةٍ نعيشُها كلَّ لحظةٍ، الغريبُ أنَّ حياةً كهذهِ لا تكسرُنا رغمَ قساوتِها.
أرادَ صديقٌ ذاتَ يومٍ أن يروي لي فصلاً من فصولِ حياتِهِ التعيسةِ؛ فهو يموتُ في كلِّ يومٍ يستيقظُ فيهِ ألفَ مرَّةٍ، بدأت قصَّةُ حياتِهِ وانتهت قبلَ أن يُولَدَ، كانَ كلُّ ما يملكُهُ كلَّما أثقلت عليهِ الأيَّامُ أن يرتميَ في حضنِ والدتِهِ – أو عفواً حضنِ خالتِهِ فوالدتُهُ قد ماتت قبلَ أن تراهُ – صغيرٌ في العمرِ كبيرٌ بما يحملُهُ قلبُهُ، يفرحُ بأبسطِ الاشياءِ لعلَّها تزيحُ غبارَ بؤسِ الأيَّامِ، غريبٌ في وطنِهِ، يعيشُ في حربٍ وسلمٍ، عالقٌ بينَ الماضي والحاضرِ، يديرُ ظهرَهُ للمستقبلِ، عاشقٌ لفتاةٍ رآها ذاتَ يومٍ تئنُّ تحتَ أزيزِ الطَّائراتِ، رغمَ أنَّهُ يكرهُ من يحتفلونَ في عيدِ الحبِّ؛ فهوُ يؤمنُ بأنَّ الحبَّ في كل لحظة، يملؤهُ الأملُ في طريقِ اليأسِ، كارهٌ للشتاءِ يشتاقُ للصَّيفِ قبلَ أن يودِّعَهُ، من فرطِ بساطتِهِ خانَهُ الجميعُ، غرَّتْهُ ابتسامتُهم وحلاوةُ كلامِهم ورقَّةُ مشاعرِهم، اعتادَ الخيانةَ حتّى ألفَها، كانَ بيتُهُ بلا سقفٍ – يُقالُ بأنَّهُ مغطىً بشيءٍ من “الزينقو” اختفت جلُّ ملامحِهِ بفعلِ الرطوبةِ – يرتكزُ على جدرانٍ مشققةٍ بشقوقٍ أضحت منزلاً للفطرياتِ والطحالبِ، سقفٌ لا يقي من بردِ شتاءٍ ولا من حرِّ صيفٍ، في الشِّتاءِ كانَ ينامُ صديقي بجوارِ “سطلٍ” بلاستيكيٍّ يمتلئُ عن آخرِهِ من ماءِ السَّقفِ، يقضي الليلَ بطولِهِ وهوَ يبدِّلُ السطلَ تلوَ السطلِ والمنشفةَ تلو الأخرى. ما يجعلُهُ يصبرُ على الشتاءِ رغمَ قساوتِهِ هو رؤيتُهُ لسربِ النورسِ البريِّ الذي يزورُ بيتَهُ المطلَّ على البحرِ مرَّةً كلَّ عامٍ، يقفُ على شرفةِ منزلِهِ ذاتِ الشبّاكِ الحديديِّ الصَّدئِ، يعجبُهُ من تلكَ النوارسِ أنَّها تعيشُ بحريةٍ حيثُما حلَّت وترتحلُ كيفَما شاءت، تحبُّ بعضَها بعضاً، تتبادلُ القيادةَ واحدةً تلو الأخرى، حتّى وإن تأخَّرَ أحدُها تباطأَ الجميعُ حتّى يلحقَ بها، كانَ يحلمُ بأن يصيرَ فرداً من أفرادِها، لعلَّهُ يزورُ قريتَهُ الصغيرةَ التي طالما نامَ على شوقِهِ إليها، كثيراً ما كانت فاكهةَ مجلسِهم في الشتاءِ كلماتُ جدِّهِ وحكاياتُهُ عن القريةِ تحتَ شجرةِ التينِ العظيمةِ في ساحةِ الدَّارِ، وإبريقُ الشَّايِ فوقَ موقدِ النَّارِ المصنوعِ من صفيحةِ زيتٍ نباتيٍّ توزِّعُها وكالةُ الغوثِ، أمَّا في الصَّيفِ فلهُ حكايةٌ عجيبةٌ معَ البعوضِ والحشراتِ، يقضي معظمَ وقتِهِ في شبهِ الميناءِ الذي يتجمَّعُ فيهِ الصَّيادونَ، يلعبُ الغميضة على أنقاضِ السفنِ والقواربِ العتيقةِ التي تحوي تاريخَ المخيَّمِ ومعاناتَهُ، اعتادَ تلكَ الحياةَ؛ ظنَّ بأنَّها ستكونُ أصعبَ حياةٍ يعيشُها بشريٌّ، فجأةً وفي لمحِ البصرِ تبدَّلَ كلُّ ذلكَ بخيمةٍ على مواصي خانيونس، فقد تركَ مخيَّمَ الشَّاطئِ بعدَ أيَّامٍ ثقالٍ عاشَها في الحربِ، مصطلحاتٌ جديدةٌ اجتاحت قاموسَهُ، السَّابعُ من أكتوبر، العبورُ المجيدُ، حربٌ بريَّةٌ، حزامٌ ناريٌّ، مجزرةٌ في مستشفى الشفاءِ، وأخرى في المعمداني، ثالثةٌ في كمالِ عدوان، تليها الإندونيسي، وليسَ آخرُها مستشفى العودةِ، والقائمةُ تطولُ، منطقةٌ آمنةٌ، تنبيهٌ رئاسيٌّ للإخلاءِ، ثمَّ حربٌ بريَّةٌ اتبعَها مصطلحاتٌ جديدةٌ منها الملثَّمُ، الياسين 105، حلِّلْ يا دويري، السَّهمُ الأحمر، عبوةُ شواظٍ، رشقةٌ صاروخيةٌ، ثمَّ فصلٌ جديدٌ من فصولِ المعاناةِ، مخيَّمُ نزوحٍ، خيمةٌ متنقلةٌ، دورُ المياهِ الحلوةِ وآخرُ للمالحةِ، مساعداتٌ طارئةٌ، دخولُ الهدنةِ حيِّزَ التنفيذِ، جولةٌ جديدةٌ للمفاوضاتِ، تعذُّرٌ، استئنافٌ، شحنةُ أسلحةٍ، انتخاباتٌ أمريكيةٌ، وسيطٌ قطريٌّ ومصريٌّ وتركيٌّ، صمتٌ عربيٌّ، اغتيالاتٌ للقادةِ وماذا بعد؟
قبلَ أيَّامٍ زرتُهُ في خيمتِهِ؛ لم يتغيَّرْ كثيراً منذُ آخرِ مرةٍ تركتُهُ فيها قبلَ النزوحِ إلى جنوبِ قطاعِ غزَّةَ، اللهمَّ إلّا من بعضِ شعراتٍ بيضاءَ نبتت في رأسِهِ تداعبُها الرياحُ، يتكئُ على عكّازِهِ بيسارِهِ وفي يدِهِ الأخرى مسبحةٌ، فقلتُ لهُ: كيفَ أجدُكَ؟ فتنهَّدَ تنهيدةً انشقَّت لها الأرضُ فكأنَّهُ أحسنَ الجواب.
رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=12966